لحظة تفكير

أحمد الشهاوي: الفِرْدَوَسُ غير المفقُود

نحن نحبُّ البلدانَ أو المُدنَ التي لنا فيها من نحبُّ ، وبنينا فيها ذكرياتٍ لا تُنسى ، وتركنا فيها بعضَ آثارنا ، وتركتْ هي الأخرى فينا بصماتَها ورائحتَها وآثارَهَا التي تبقى حتى النفَس الأخير ، فالمكانُ له جمالياته لما فيه من تفاصيل ترتبطُ بمن يعيشُ فيه ؛ لأنَّ الأمكنةَ بلا بشرٍ نحبُّهم لا نرتبطُ بها ، ولا تعني لنا شيئًا ، بل إنَّ البشرَ هم الذين يسبغُون على أماكنهم البهاءَ والسِّحرَ الذي يجذبُ ويجلبُ .

فالمكان – الذي هو الموضعُ والمنزلةُ { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } – لا يمكن إدراكُه وتصورُه بل تذكُّره إلا بالذين التقيناهم فيه ، ووقع شيء لنا منهم في أرواحنا وقلوبنا ، أو لدينا تصوُّرٌ مُسبقٌ عن المكان من خلال شخصٍ له موقعٌ في دواخلنا ، وجئنا كي نحيا في مكانه لبعض الوقت أو نرى المكان الذي عاش فيه أو كتب وألَّف .

والمَكان الذي تحت الشَّمس لنا هو المكانُ الآمنُ ، الذي فيه نهنأ ونستقرُّ ، ونشعرُ بالارتياح والانسجام والتحقُّق ، أما المكان الغامض ، فهو عندي بمثابة اللاَّمَكان أي المَكان البعيد أو المجهُول أو غير المحدَّد ؛ لأننا لم نحس فيه بالراحة والتوحُّد معه ، كأنه إنسانٌ نريده . ونحن نحيا بالمكان ، وندركه ، ونتعامل معه ، ونعيه ، ولكن ليس بمعزل عن الزمان ، أو هو يحيا فينا ، ويدلُّ علينا ، وندلُّ عليه فيما ننتج ونبدع ، واسم المكان في النحو والصرف عند أهل اللغة صيغة مشتقَّة تدلُّ على مَكان وقوع الفعل ، لأننا نفعلُ في المكان ، بل نحبه ، ونتواصل معه ، ونحنُّ ونشتاقُ إليه لأننا نمارس أفعالنا فيه : الكتابة ، الحُب ، الموسيقى ، ممارسة أي فن أو رياضة مثلا .

والمكان حسب دراستي للفيزياء عندما كنتُ طالبا لسنةٍ واحدةٍ في قسم الرياضيات بكلية التربية في دمياط جامعة المنصورة هو ” مُنْفَسَح ثلاثي الأبعاد لا حدودَ له تأخذُ فيه الأجسامُ والوقائعُ وضعًا واتجاهًا نسبيًّا ” ، فالمكان الفيزيائي يشغله من نحبُّ ، وتوجدُ فيه أجسامُ من ارتبطنا بهم رُوحيًّا ونفسيًّا أو عشقيًّا .

وبالنسبة إليَّ أنا دومًا أعوِّلُ على المكانِ الرُّوحيِّ أو رُوح المكان ؛ لأنَّ المكانَ يبقى برُوحه وبالإشعاع الذي يبثُّه في الرائي أو المُقيم أو حتى الزائر العابر لبعض الوقت ، ورُبَّ مكان مؤقت يكونُ عظيم الأثرِ من مكانٍ ولدنا فيه وتربينا .

وللحسن بن الهيثم (354 هـجرية /965ميلادية -430 هـجرية /1040ميلادية ) – وقد عاش في مصر فترةً طويلةً ، وتوفي في عمر الرابعة والسبعين في مدينة القاهرة – رسالةٌ مُهمة كتبها في القرن الحادي عشر الميلادي عنوانها ” رسالةٌ في المكان” ، ولا أحد ينسى الكتاب الأهم الذي كتبه جاستون باشلار (1884 – 1962ميلادية ) ” جماليات المكان ” .

والمكان يترك بصمته العميقة على مخيلة الشاعر ، حيث يعتبر ذلك المكان مقدَّسًا ، ويخلق له الأسطورة الخاصة به :

” لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ

أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ ” أبو الطيِّب المتنبي (303 – 354هـجرية / 915 – 965ميلادية )

لا يوجد نصٌّ شعريٌّ ليس فيه زمانٌ ومكانٌ ، والنص بغيرهما فقير ويعاني من وهَنٍ وضعفٍ ، ويشير إلى أن كاتبه علاقته غائبة عن المكان ، وحتى لوكان الشَّاعر في غربة عن المكان فيمكن له أن يكتب معاناته مع المكان الذي ولد وعاش فيه ، لأن المكان يُغْنِي النص ويثريه .

والشاعر عندي لا ينفصلُ عن مكانه ، لأنه جُزءٌ منه وامتدادٌ له ، على المستوى الجمالي واللغوي والنفسي ؛ لأنَّ المكان يصوغُ النفس ، ويشكِّل الرُّوح بوحداته المتعدِّدة والمختلفة في تنوُّعاتها .

فالمكان هو مكان الطفولة والدراسة والعائلة والأهل والأصدقاء والتجارب الأولى في كل شيء ، والقراءات المؤسِّسة والمؤثِّرة ، والمكان هو ” همزة الوصل ” بين الشَّاعر وقصيدته ، ولا حياة سوية بدونه . فالشَّاعر يستمدُّ صوته وهويته وبصمته وشخصيته وخُصوصيته الشعرية من مكانه الذي مهما ينأَ لا يمكن أن ينفصم عنه ؛ لأن الذات الشاعرة تعتصمُ بمكانها وتستمسكُ ، وتتشبَّثُ بجذورها فيه .

والشاعر الذي يغادرُ مكانه – الذي هو الملاذ والحِضْن والمأوى والانتماء والمرجع الأول والأخير والمحلُوم به والمتخيل دومًا في أوقات الشِّدَّة – لأسبابٍ اضطرارية أو قهرية يخافُ النسيان ، ويخشى فقدان المكان أو بهت صُورته في ذاكرة رُوحه ؛ لأنَّ هذا الفقد أحد أسباب موت القصيدة أو عطبها أو نقص دلالاتها وإشاراتها ، وانخفاض درجة حرارة عفويتها وفطرتها وحساسيتها .

المكان عندي مقدَّسٌ ، ولا يمكن التخلِّي عنه ، لأن التخلي خيانةٌ للروح قبل أن تكونَ خيانةً للمكان ، فيكفي أن نقولَ إن المرأةَ هي الشاهد الأول على المكان ، وهي تحضر دومًا في نفس الشاعر ونصه .

المكان – الذي يحمي الأحلام والذكريات – ملهم وموحٍ للشَّاعر الذي يئتنس به ، ولذا نراه عند الكتابة يؤنسِنُ المكان ؛ كي لا يفقده ويبكي على أطلاله كشاعر جاهلي من زمن المعلقات ، حيثُ إنَّ الشِّعرَ الجاهليَّ هو شعرٌ مكانيٌّ بامتياز .

المكان ليس جغرافية خارجية جامدة باردة ، نصفُهُ ونحدِّد معالمه بحيادٍ ، بل هو لحم ودم ، نتنفَّسه ونخاطبه ويشعرُ بأوجاعنا ، ويحسُّ بما نحن فيه من آلامٍ وأحزان ، فهو نصيرٌ وسند .

ما يميز شاعرًا عن آخر – من وجهة نظري – هو علاقته بالمكان ؛ لأنَّ المكان عندي هو اللغة ، هو الأب والأم ، هو الأسلاف ، التراث والأساطير والتاريخ والذات في تجلِّيها ، هو من تحبُّ وما تشتهي .

فسر النصِّ في فرادة مكانه ، لأنَّ رائحةَ الأماكن لا تتشابهُ ، ولا حتى تتقاطعَ .فالمكان ليس جامدًا ، بل هو مكوِّنٌ أساسيٌّ منذ فجر التاريخ .

والشَّاعر العربي منذ الجاهلية مرتبط أكثر من غيره في الشعرية الإنسانية بالمكان الذي ولد فيه وعاش ، وإن ابتعد عنه يومًا تظلُّ رُوحه تحملُ المكان بل تراه مقدَّسًا ، لأنَّ العربيَّ منذ القدم قدَّس أماكنه دينيًّا ، ونسج حولها الأساطير . وكان المكان في القصيدة الجاهلية ركيزة أساسية في النص الشعري ؛ ولذا وصفَ بالشعر المكاني ، ” وكان للمكان سلطانه على الشِّعر ” .

فنحن نقدِّس أماكننا ونعلِّي من مكانتها ، ونعظِّم من شأنها ، لأنَّنا نرى فيها ما هو مستتر وخفي ، وقادر بقوته الخارقة ، وقدرته الخلاقة على الوحي والتغيير فالطقوس التعبدية مرتبطةٌ بالمكان ، والنظر إلى النباتات والكائنات المباركة له علاقة بالمكان ، فمثلا سنجد الكثير منها مذكُورًا في القرآن ، وهو أيضًا كتاب أماكن بامتياز ، فما أكثر الأماكن التي وردت فيه مئات المرات .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button