‏آخر المستجداتلحظة تفكير

أحمد عصيد: حق الفتيات في التعليم في مواجهة الغلوّ السلفي

تنتشر هذه الأيام شعارات خرقاء منافية للحس السليم ولحاجات المجتمع المغربي والتزامات الدولة، تحث العائلات على إخراج بناتها من المدرسة وعدم تركهن يتممن دراستهن، وقد سبق لي أن طالبت مرارا بتدخل وزير التربية ومصالح حماية الطفولة من أجل إنقاذ طفلات يتم حرمانهن من الدراسة ومن حقهن في التعليم بسبب موقف عائلاتهن التي تعتنق مذهب التطرف السلفي في أحياء العديد من المدن المغربية، فإذا كانت بعض الأوساط الفقيرة في البوادي تحرم الطفلات من الدراسة بسبب انعدام البنيات التحتية الضرورية أو النقل أو غير ذلك من الأعذار التي تلقي على كاهل الحكومة بأعباء ثقيلة، فإن هذه العائلات السلفية المذكورة لا تعاني من نفس المشاكل ولكنها تمنع الفتيات من الدراسة بسبب إيديولوجي أساسا، يؤدي بالكثير منهن إلى السقوط بين براثن الجهل والضياع بعد تعريضهن للزواج المبكر والعنف الذكوري ثم الطلاق.

ويعبر هذا الموقف السلفي اللاعقلاني والذي لا يحترم حقا مبدئيا من حقوق الأطفال، يعبر عن عقدة السلفية منذ بداية الدولة الحديثة في بلادنا، ضدّ تمدرس الفتاة، حيث عارض الوعي التقليدي حق الفتيات في التعليم منذ بداية فترة الحماية، كما دعا إلى إخراجهن منه في فجر الاستقلال بسبب تناقض وضعية المرأة المتعلمة والعاملة، مع أحكام الشريعة كما تأسست منذ تشكل المنظومة الفقهية الإسلامية خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين، في مجتمع لم يعد قائما في زماننا.

وإذا كان هذا السلوك المتشدّد اليوم مخالفا للقانون الذي يُجرِّم حرمان الأطفال من الدراسة حيث ينص “القانون الإطار للتربية والتكوين” على ضرورة ضمان الحق في التعليم لكل الأطفال من ذكور وإناث حتى سن 16 سنة، فإن مواجهة آفة الهدر المدرسي في حالة الفئات الاجتماعية المذكورة يقتضي معالجة شمولية متكاملة العناصر وتعتمد مقاربة متعددة الجوانب والمستويات:

من الجانب القانوني والمؤسساتي:

يقتضي الأمر تفعيل القانون بصرامة والحرص على مواكبة تنفيذه داخل الأوساط السلفية وفي الأحياء التي تسود فيها إيديولوجيا التشدّد الديني، كما يقتضي تشديد الرقابة على حالات زواج الطفلات، وتقييد الاستثناءات التي تمنحها المحاكم والتي بالغ القضاة في استغلالها عبر ما سمي بـ”السلطة التقديرية للقضاة” مما جعل نسبة تزويج القاصرات يرتفع في السنوات الأخيرة ومنذ تعديل مدونة الأسرة سنة 2004.

هذا ومن اللازم اعتماد وسائل الردع المؤسساتية مثل تدخل النيابة العامة ومصالح حماية الطفولة في الحالات الموثقة التي تُحرم فيها الفتيات من حقهن في التعليم.

من الجانب الاجتماعي:

ضرورة القيام بحملات توعية وتحسيس موجهة للأسر التي تعاني من هيمنة الفكر المتشدّد واللاعقلاني، خاصة في الأحياء التي تسود فيها سلوكات الانغلاق والتقوقع والرغبة في خلق فضاءات خارج منطق الدولة، وينبغي التركيز في هذه الحملات على إبراز قيمة التعليم في التمكين للبنات والأبناء وضمان حياة كريمة لهم جميعا، ومن أجل تيسير هذه المهمة لابد من إشراك الجمعيات المدنية والنسائية في رصد هذه الحالات ومواكبة الأسر والطفلات بشكل منهجي ويومي.

ويمكن للدولة العمل على تخصيص منح مدرسية ووسائل نقل مدرسي ودور الطالبات لتقليل الأعذار الاقتصادية أو “الأمنية” التي تتحجج بها بعض العائلات ظاهريا، حيث يعتبر بعض آباء وأولياء الطفلات بأنهن معرضات للخطر خلال الذهاب إلى المدرسة لتبرير حرمانهن من التعليم.

من الجانب الثقافي والفكري:

غير أنه لا يمكن إنجاح عملية التوعية والتحسيس بضرورة تمكين الطفلات من حقهن المبدئي في التعليم بدون التعرض لمشكلة الفكر السلفي وأسسه ومناهجه وأساليب اشتغاله في المجتمع، مما يقتضي تفكيك خطابه المتشدد الذي يربط “العفة” والفضيلة لدى النساء بالبقاء في البيت وعدم مغادرته، مما يؤدي إلى تجهيل الفتيات والنساء وعزلهن عن دينامية المجتمع وتطوره، ويمكن لهذا العمل الفكري التحسيسي أن يتمّ من داخل المرجعية الدينية نفسها عبر إبراز مواقف الفقهاء التنويريين الذين تصدوا لهذا المشكل منذ عقود طويلة وخاصة منذ بداية القرن العشرين في المغرب والمشرق، ودعوا إلى ضرورة تعليم الفتيات، بل يمكن الاستعانة كذلك بموقف الفقيه ابن عرضون الذي دعا منذ أربعة قرون إلى تعليم المرأة معتبرا بأن المرأة الجاهلة لا يمكن أن تربي أطفالا صالحين.

ويمكن في هذا الإطار الثقافي العمل على إنتاج محتوى إعلامي باعتماد الصورة للتعريف بالنساء الناجحات في كل المجالات بغرض تقديمهن قدوة، وخاصة منهن اللواتي نشأن في أوساط فقيرة ومهمشة.

والخلاصة أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب إرادة سياسية ومؤسساتية صارمة لتطبيق القانون وتفعيله على أرض الواقع، ومعاقبة مخالفيه، كما تقتضي مواكبة اجتماعية وثقافية وإعلامية لتغيير العقليات والسلوكات، وتقديم بدائل مادية ومعنوية لتسهيل ضمان مكان لهؤلاء الطفلات في مقاعد الدراسة.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button