
ـ كلمات في التطبيع مع التطبيع ـ
ليست القصة، منذ البدء، قصة أحمد ويحمان مع يونس مسكين، ولا حتى مع سعد الدين العثماني ال ” مسكين ” كما يناقش البعض بتسطيح للأمور . القصة ليست هنا مهما أُلبست الوقائع من لبوس شخصي ضيّق. القصة أكبر، وأخطر، وأعمق؛ إنها قصة المبدأ حين يُراد تعويمه، والأخلاق حين يُراد تمييعها، والمعنى حين يُراد إفراغه من محتواه. وحين تُمحى المعايير، لا يبقى لأي شيء معنى.
هناك لحظات في تاريخ الأفراد والجماعات، يقدّر الله فيها أن يُرفع الغطاء، فتتكشّف المواقف، وتظهر حقيقة المواقع والاصطفافات. كما كانت سورة التوبة في القرآن الكريم كاشفةً لطيف واسع من المواقف، من الصادقين إلى المتخاذلين، ومن المجاهدين إلى المبرّرين، ومن الثابتين إلى المرجفين والمتآمرين؛ وكما كانت غزّة في محنتها الكبرى مرآةً كاشفةً أسقطت الأقنعة عن أنظمة ونخب وفضاءات إعلامية؛ كذلك شاء الله أن تكون تدوينة واحدة كافيةً لتعرية مواقف كثيرة، ولفضح حقيقة العلاقة مع التطبيع… لا من حيث الشعارات، بل من حيث السلوك العملي.
لسنا هنا في وارد أي سجال صغير، ولا معنيين بتشعيب نقاش يراد له أن يتوه في الزوايا الجانبية. الموضوع واحد وواضح :
أجندة اختراق وتخريب صهيونية تستهدف المغرب، وتُمرَّر عبر التطبيع، ثم عبر “التطبيع مع التطبيع”.
هنا بالضبط تكمن اللعبة.
فالخطر لم يعد فقط في توقيع اتفاقية، بل في تحويلها إلى أمر عادي، طبيعي، يومي، بلا كلفة أخلاقية. وهنا نتذكّر تجربة “الضفدع المطبوخ”:
لو أُلقي الضفدع في قدر ماء يغلي، لقفز فورًا ونجا.
لكن حين يُلقى في قدر ماء بارد، ثم توقد النار تحتها، ترتفع الحرارة “بالشوية بالشوية”، فإنه يتأقلم، ويتراخى، وتخور قواه، حتى يُطبخ طبخا دون أن ينتبه لذلك .. وكل ذلك ” بالشوية بالشوية ” .
وهكذا يُراد للمجتمع أن يُساق؛ لا بالصدمات، بل بالتدرّج القاتل. ندوة هنا، تبييض هناك، استضافة، تعويم، إعادة إدماج… إلى أن يصبح التطبيع “نقاشًا عاديًا”، ويغدو المطبّع “فاعلًا عموميًا طبيعيًا”.
هنا يقع الخطر الحقيقي.
الاعتراض الذي عبّرنا عنه لم يكن إساءة، ولا تشهيرًا، ولا تصفية حسابات. كان احتجاجًا مبدئيًا وأخلاقيًا على محاولة تبييض فعل سياسي موصوم، وقع في لحظة تاريخية دامية، سقطت فيها كل الأعذار، وبقي الدم الفلسطيني شاهدًا صارخًا، وبقي الشارع المغربي شاهدًا أوضح، وهو يهتف بالملايين : التطبيع خيانة.
ولمن اتصلوا، وكتبوا، وناقشوا، وعلّقوا — وهم كُثُر، وغالبيتهم الساحقة على الموقف الذي عبّرنا عنه — نقول :
أنتم لا تعبّرون عن رأي “نشطاء” معزولين، بل عن وجدان شعبي حيّ، خرج في مسيرات مليونية، ووقفات حاشدة، من طنجة إلى الكويرة، يرفض التطبيع مع القتلة، ويرفض تحويل دماء الفلسطينيين إلى تفصيل ثانوي في أجندات إعلامية وسياسية باردة.
ولو كانت الأمور شخصية — كما يحاول البعض تبسيطها — لما كان للموقف أن يُتّخذ أصلاً. والحق يُقال للتاريخ :
سعد الدين العثماني، قبل توقيعه على اتفاقية التطبيع، كان صديقًا حميمًا، وقبل أيام فقط من توقيعه، كنت ضيفًا على مائدة عشائه في بيته الوظيفي كرئيس للحكومة. لكن التاريخ لا يُدار بالعواطف، ولا المبادئ تُقاس بالعلاقات الشخصية.
المعركة ليست مع الأسماء، بل مع الخيارات.
ليست مع الأشخاص، بل مع السياسات.
ليست مع الوجوه، بل مع المسارات.
والذي يقع اليوم أخطر من جدل عابر :
إنه محاولة إدخال المغرب، بوعي أو بدونه، في مسار “التأقلم القاتل” مع الاختراق الصهيوني، سياسيًا، إعلاميًا، ثقافيًا، واقتصاديًا.
ومتى فُقدت البوصلة الأخلاقية، صار كل شيء قابلًا للتبرير، وكل خيانة قابلة للتأويل، وكل سقوط قابلًا لإعادة التلميع.
*آخر الكلام*
لكل ما سبق، نعيد التأكيد، بهدوء ولكن بحزم في آن :
التطبيع ليس وجهة نظر. التطبيع جرح في الوعي، وتهديد للأمن الرمزي والسياسي والاستراتيجي للمغرب.
ومن يظن أنه يطبّعه “بالشوية بالشوية”، إنما يشارك — بقصد أو بغير قصد — في لعبة الضفدع المطبوخ.
والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح اليوم، بعيدًا عن الضجيج :
هل سنقفز من القدر، أم سنواصل التأقلم، مثل الضفدع المطبوخ، حتى النهاية .. ؟
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
وآخر دعوانا أن اللهم اسق عبادك وبهائمك !
————————
* رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع





