
(كش بريس/التحرير )ـ أعلنت المفوضية الأوروبية في بروكسل عن الشروع في تنفيذ نظام الدخول والخروج الجديد (EES)، الذي يخص مواطني الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في خطوة وُصفت بأنها التحول الأمني الأكثر طموحاً منذ إنشاء منطقة شنغن. يهدف هذا النظام إلى جمع بيانات بيومترية دقيقة، من بصمات الأصابع إلى صور الوجوه، وتخزينها في قاعدة معلومات مركزية، بزعم تعزيز الأمن ومكافحة الجريمة والهجرة غير النظامية.
لكن خلف هذا التبرير الأمني، تلوح أسئلة فلسفية وإنسانية عميقة: إلى أي حدّ يمكن للأمن أن يبرّر هذا المستوى من الرقابة؟ وهل تتحول أوروبا، التي بشّرت العالم يوماً بحقوق الإنسان، إلى فضاء رقمي مغلق تديره الخوارزميات؟
التحول الأمني الذكي: حين تتحول الحدود إلى خوارزميات
لم تعد الحدود الأوروبية مجرد حواجز مادية أو نقاط عبور مؤقتة، بل أضحت منظومات رقمية متصلة بشبكات تحليل وتحكّم. فبدلاً من حارس الحدود التقليدي، نجد اليوم خوارزمية تقرّر من يمرّ ومن يُمنع.
إنها نقلة نوعية من الأمن بوصفه حماية، إلى الأمن بوصفه رقابة. وهنا تتجلى المفارقة: كلما ازدادت التكنولوجيا ذكاءً، ازدادت السلطة خفاءً وعمقاً.
البيومترية والهوية المراقَبة: من جواز السفر إلى بصمة الوجه
يبدو أن الجواز الورقي في طريقه إلى الزوال. فكل ما هو جسدي، من بصمات إلى ملامح وجه، يُعاد إنتاجه رقمياً داخل قاعدة بيانات عملاقة.
الهوية لم تعد توقيعاً سيادياً بل أصبحت “شفرة” رقمية قابلة للنسخ والمحو. إنها لحظة انتقال الإنسان من كينونةٍ ذات إرادة إلى معطى إحصائي يُدار عن بُعد.
الحدود كفضاء رقمي: انزياح في مفهوم السيادة
تتغير فكرة السيادة ذاتها. لم تعد الدولة تملك الحدود بوصفها جغرافيا، بل تديرها بوصفها شبكة معلومات. كل معبر هو نقطة بيانات، وكل إنسانٍ رقم في خريطة أمنية متحركة.
إنها سيادة جديدة بلا تراب، تحرسها الخوارزميات لا الجيوش.
من الأمن إلى الهيمنة الرقمية: الفلسفة الخفية للمراقبة
في الظاهر، يهدف النظام الجديد إلى محاربة الجريمة، لكن في العمق، يؤسس لمرحلة جديدة من السيطرة الناعمة. الأمن يتحول إلى أيديولوجيا تقنية تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والفرد.
فالمراقبة هنا ليست أداة ضبط فحسب، بل شكل من أشكال الهيمنة المعرفية، حيث تُختزل الذات الإنسانية في معادلة رقمية بلا روح.
الإنسان بين العبور والمحو: سؤال الأخلاق في زمن البيانات
هل يمكن للحرية أن تنجو في عالم تحكمه الماسحات الضوئية والخوادم العملاقة؟
يتحوّل العبور عبر الحدود إلى تجربة وجودية جديدة: الإنسان يُمسح ويُسجل ويُخزَّن، لا بصفته ضيفاً أو مهاجراً، بل كعنصر بيانات داخل منظومة أمنية.
هكذا يُمحى المعنى الإنساني لصالح الكفاءة الإدارية.
الاتحاد الأوروبي في مواجهة ذاته: من فضاء إنساني إلى قلعة رقمية
بهذا النظام الجديد، تدخل أوروبا اختباراً أخلاقياً صعباً. فهي التي بشّرت العالم بعالم مفتوح وحقوق لا تُمسّ، تجد نفسها اليوم تُشيّد جدراناً رقمية باسم الحماية.
فهل هي تستعد لمستقبل أكثر أمناً… أم لحقبة أكثر عزلة؟
بين المثال الإنساني والخوف من الآخر، تتشكل ملامح أوروبا جديدة، لا حدود لها سوى ما ترسمه الخوارزميات.