لحظة تفكير

د محمد فخرالدين: أنثربولوجيا الجريمة .. نظرة في احتياطي سكاكين عيد الأضحى 

من أهداف أنثربولوجيا الجريمة بالإضافة إلى البحث الميداني والكشف عن أسباب ودوافع وقوع  الجرائم، وتأويل الفعل الجرمي وفهمه ، الوقاية والاستشراف ودق جرس الإنذار لمزيد من الحذر والاحتراس وحماية المجتمع .

أولا :  ظاهرة وفرة السكاكين

نلاحظ بمناسبة عيد الأضحى كثرة السكاكين المعروضة للبيع و خدمات الشحذ ـ بخلاف ما كان في الماضي ـ و بعد عيد الأضحى توافر عدد ضخم من السكاكين في المنازل، مما يطرح السؤال عن مآلها .. وعلاقتها بما يقترف لاحقا من جرائم ..

من جهة أخرى يمكن أن طرح سؤالا من خلال هذه الملاحظة، هل توفر كل هذه السكاكين في الأسواق والمنازل وهي بهذه الكثرة وهذا التنوع في الأشكال والأحجام، يمكن أن يكون باعثا غير مباشر  على ارتكاب عدد من الأفعال  الجرمية ،  أو على الأقل عاملا مساعدا له دور ما في ذلك   ..

هذا بالإضافة إلى الاشهارات المرعبة لمختلف الآلات ذات الصلة بالذبح، والتي يمكن أن تخرج في بعض الاحيان عما يشار إليه من مباحات، وتستعمل في لحظات صراع أو هيجان، عمدا أو بغير عمد ، في ارتكاب جرائم خاصة عند فئات هشة في المجتمع، في تكامل تام مع الأفلام التي تستشهر العنف والدم و الاعتداء، وأخبار الحروب التي تطبع مع العنف و الموت، و عنف اللغة التي تستعمل كل العبارات المبالغة والمهددة باستعمال العنف  .. ..

لا شك أن مثل هذا التأثير مستبعد على مستوى الوعي والإدراك العاقل … لكن على مستوى اللاوعي يعتبر توفير السلاح ووضعه في مدار نظر الشخص القاصر أو المراهق المشحون عاطفيا ، أو في يد المضطرب نفسيا بفعل ما بعيشه من أوضاع اجتماعية و شخصية صعبة، أو المتعاطي للمخدرات، محفزا على ارتكاب الفعل الجرمي، ومساعدا على توفير ركن مادي من أركان الجرائم، يشبه تماما التحفيز الذي يكون بوضع الأكل أمام الجائع الذي لا يملك ثمن الطعام .…

 ويمكن أن نستنتج أن توافر سكاكين بالمنازل قد يحفز على استخدامها في مشاحنات صغيرة بين الإخوة والأقارب أو الجيران، قد تقع لأسباب تافهة، حيث يقوم الشخص بالدخول إلى منزله ليأتي بسكين ويعود إلى غريمه للمشاجرة معه وإسالة الدم  ..

ثانيا  :  احتياطي سكاكين

ماذا نعمل أمام توفر احتياطي سكاكين بالمنازل بعد عيد الأضحى، حيث يصل عددها إلى عشرة سكاكين بالبيت الواحد ،  ألا يعتبر ذلك توفير أداة  لجرائم غالبا ما نسمع عن وقوعها فجأة، خاصة الجرائم العائلية والجرائم ضد الأصول والفروع، والتظاهر العنفي الاستعراضي في الشارع من طرف أحد الجانحين، وإذا أضفنا إلى ذلك احتمال الاستعمال من الذين يعانون نفسيا واجتماعيا، فسيكون هذا مؤشرا حقيقيا على امكانية تنامي هذا النوع من الجرائم التي تستعمل فيها هذه الأدوات بطريقة ما ولأسباب متعددة، مما يستلزم الوعي بهذه الظاهرة والتعامل معها بجدية وحيطة واحتراس، وتقديم نصائح وتحسيس الأسر بخطورة وجود هذا الاحتياطي الضخم من السكاكين بالمنازل، وما علينا إلا أن نبحث في عددها  وأنواعها وأصنافها وأشكالها، وكم مرة تم استعمالها في التهديد بالعنف، وسنتفاجأ بعددها المبالغ فيه خاصة داخل الأسر الفقيرة  ..

إن علاقة الأداة بالفعل الجرمي علاقة تكامل، وليست علاقة استلزام، فهي تجعل الفعل محتملا وممكن الوقوع ، فالشيء المتداول اجتماعيا لا يمكن أن نمنعه من الحضور  على مستوى المتخيل الجمعي أو تجريده من دلالته على إراقة الدماء والمس بالحق في الحياة وسلامة الأشخاص، سواء في التهديد أو  الاعتداء أو الدفاع عن النفس، وهو مالاحظناه في استعراض جمعي لحملة السكاكين من الشباب في الأزقة التي نقلتها بعض وسائل التواصل الاجتماعي سابقا، أو ما لاحظناه في ظاهرة ماسمي بالتشرميل الإجرامية أو السرقة بالعنف ..

إن التوفر على الاداة وتوفر الاستعداد النفسي والظرف الاجتماعي، غالبا  ما يؤدي في نهاية الأمر إلى وقوع الجرائم، وهذا من باب التوقع وليس من باب المبالغة  .. ثم إن هذا النوع من التأويل الانثربولوجي هو ما نحتاجه لوقاية المجتمع من الجريمة، بتشجيع المزيد من التوقعات والقدرة على الاستكشاف والتنبؤ قبل وقوع الجرائم، مع الإشارة تجنبا للاستنتاجات المتسرعة أنه قد لا تكون في النهاية أية علاقة وثيقة بين توفر الأداة والفعل التي تبقى فرضية بحاجة إلى إثبات علمي ..

وربما يتطلب الإثبات استكشافا دياكرونيا لتصاعد أو تناقص الجريمة بمناسبة العيد أو بعده نتيجة توفر عدد كبير من السكاكين بالمنازل … وهنا قد يلعب دور علم الإحصاء الجنائي دوره المهم ..

ثالثا : السكين و الدم

اذا كان العيد الكبير أو الأضحى مقترنا بالفرح الجمعي الخاص المفتقد في الأحوال العادية وتأدية الطقوس الدينية وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية، فهو منذ نشأته له دلالة خاصة مختلفة عن غيره من الأعياد ، لارتباطه بالأضحية التي تقدم قربانا للخالق  ..

وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة ، تحولا في مفهوم العيد، نظرا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وارتباط هذا الأخير بأشكال ومظاهر من الضغط الاجتماعي والنفسي على الأسر الفقيرة والمتوسطة الدخل في غياب التضامن الاجتماعي الشامل لأفراد المجتمع ، وانحصار التقاليد والعادات المصاحبة لهذا الطقس أو الاحتفال التي كان لها دور أساسي في التنفيس وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي  ..

وتظل مثل هذه المناسبات عند الكثير من الشعوب القديمة احتفاء بالحيوان المذبوح مما يشكل العودة إلى طقوس ارتبطت ببدايات الجنس البشري ..

ويوجد ارتباط رمزي للسكين بالدماء ، يحيل السيكولوجيا البشرية عبر المتخيل الانثربولوجي المنسي إلى دائرة الخوف والخطر والاعتداء والدفاع عن النفس، الذي يتجسد في دلالة السكين، وخاصة بعد رؤية الدماء المراقة، والتطبيع مع الدم  من خلال وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي التي تمطرنا بأخبار الجرائم والتي يكون فيها السكين بطلا بدون منازع .. .

إن عملية الذبح ليست أمرا سهلا ولا تمر بيسر داخل  المتخيل البشري، ولذلك احاطتها المجتمعات بالطقوس والتحريمات وجعلت في القائم عليها شروطا وأدواتها صفات خاصة من بينها البسملة وتقديم واجبات الشكر والحمد للخالق واختيار الأداة الارحم للاضحية وتزيينها بالكحل والحناء وغير ذلك للتخفيف واللطفنة  ..

لكن تبقى قضية التطبيع مع مشهد الدم المراق، واستغلال دم الذبيحة أو أعضائها  لأغراض سحرية حاضرا في هذه الطقوس ، .ومن المستحب منع رؤية أمر الذبح على الأطفال الذين قد يتأثرون أكثر بذلك وتخدش نفسيتهم ومتخيلهم بشكل بليغ ، فالتمرين على الرجولة التي قد يلجأ لها بعض الأسر، وقد يروج لها بعض الثقافة الشعبية لا علاقة له بالقدرة على الذبح والسلخ  ..

إن رؤية الدم المسفوح من الأضحية وهي في لحظاتها وتنازعها  في لحظاتها الأخيرة لا شك أن يؤثر بشكل لا واع على الأطفال، ويجعل رؤية عملية الذبح  ـ بعيدا عن  رؤية الجزار التي دأب على هذا الفعل وأصبح يراه فعلا  طبيعيا وليس شكل اعتداء على الحياة ـ مشهدا صادما للطفل في سن مبكرة ، وهو لا شك له تأثير بشكل ما  على الذهن البشري بصفة عامة يرده بشكل نكوصي إلى أزمنة غابرة    ..

رابعا : علاقة السكين بالجريمة

وقد عرفنا في السنين السابقة علاقة السكاكين المتوفرة بكثرة في المنازل بعد كل عيد ، أو المصنوعة لتلك الغاية، بارتكاب السرقة بالعنف واعتراض طريق المارة والتهديد، والهجوم بالسكاكين وبخفة الحركة العنفية وترددها في ما سمي بالتشرميل .. وهي إشارة إلى تقنية التقطيع المرتبطة أساسا بطقوس معينة وبنوع خاص من السكاكين والأفعال  ..

مما يجعل العلاقة بين السكين كأداة للفعل والجريمة حاضرة، ويظهر السكين الذي يصل إلى درجة سيف، وكأنه يعطي المجرم القوة والشجاعة التي يفقدها في حالة التجرد أو الإقدام على الفعل بيدين مجردتين  …

ـ  تدابير وقائية: مزيدا من الاحتراس

أن ندعو إلى منع بيع السكاكين فذلك غير ممكن ، ولكن ربما ندعو الأسر إلى إخفائها بعد كل عيد أضحى  بعيدا عن  أعين الأطفال والمراهقين والتقليص من عددها ، ومنع الاشهارات ذات الصلة بالسكاكين وأدوات التقطيع ، ومنع الافلام والمسلسلات التي تحتضن العنف والاعتداء ، والتكثير من التحسيس بخطورة مثل هذه الأفعال التي قد تؤدي إلى استفحال هذا النوع من الجرائم التي تتوسل بالسكاكين، والتي تشكل إضافة أعباء جديدة على المجتمع لحماية نفسه من جرائم يوفر لها بنفسه أدواتها و ووسائلها  .. عيد سعيد ..

…………

+ من أسرة تحرير “كش بريس”

‏مقالات ذات صلة

Back to top button