‏آخر المستجداتفنون وثقافة

الفنان الكبير محمد رشدي لمفرج يكتب مذكراته ل”كش بريس” (الحلقة 25)

مشاركتي مع الفنان العالمي Goran Bregovic    (تابع – 10 )
• مهرجان  Stimmen   بمدينة Lörrach   بسويسرا
• مهرجان   Caracalla بمدينة Roma   بإيطاليا

(…) كان وقع كلمة بازيل علي كصفعة غادرة !! فالتفت نحوه فزعا وقلت:

  • ولكن طائرتنا من زوريخ.. وليست من بازيل..!!!!!

جحظت عيني السويسري كمن استفاق من كابوس مرعب، وقال:

  • لا تمازحني رجاء…! أنا متعب وقد شربت كثيرا.. لست في حالة تسمح لي بتقبل المفاجآت.. وإني على يقين أن طائرتكم من بازيل .. لذا أريدك أن تذهب يا صديقي لترتاح فأمامك غدا يوم شاق وطويل ..

   كان المسكين يتحدث بلسان ثقيل، جمع بين تعب المسؤولية وتأثير المشروبات الكحولية. ولكنه حين رآني لم أتزحزح من مكاني، تنامت شكوكه فأدرك المعاني.. حينها أسكت محرك حافلته والتفت إلي قائلا :

  • أريدك أن تصعد حالا لتحضر تذكرة سفرك.. أنا سوف أنتظرك هنا!!

   .. قصدت غرفتي استبق الخطوات، ولم أشأ أن أعلم باقين .. ورحت إلى حقيبتي لإخراج تذكرتي بعد أن تخلصت من آلتي إذ طرحتها أرضا.. وكان توقعي صحيحا لا فرضا..!!  رميت الطربوش على الفراش ..  ودون أن أزيح عني الجلباب، هببت مسرعا أتعثر في الأهداب، والبلغة تنسل من الأعقاب..

… فتحت باب الحافلة على صديقنا السويسري، فوجدته مسندا رأسه على المقود.. وما إن سلمته التذكرة وتفحصها حتى شح ريقه وصار يفرك شعره وينتفه، ويسب يومه التعيس ويلعنه .. ثم أخرج هاتفه الخلوي من جيبه واتصل بمدير المهرجان الذي كان من المفترض أن يرافقنا إلى المطار في الصباح ليحل معنا مشكلة التأشيرة (المحروقة )!!

   .. لم أكن لأفهم من كلامهما شيئا، فالحديث كله باللغة الألمانية ، لكن الصراخ المتعالي لمدير المهرجان كاد يشق أذن السويسري، والمسكين لم يكن يقوى على الرد، فيكتفي بإبعاد الهاتف عن أذنه ممتعضا، أو يتمتم ويكلم نفسه معترضا.. وحين أنهى المكالمة أسند رأسه إلى وسادة المقعد وأخذ نفسا عميقا ثم نظر إلي قائلا:

  • عليك أن تذهب للنوم..  فقد تعبت كثيرا اليوم .. سوف أتصل بالسيدة Maria  لنرى كيف سنحل هذه المشكلة..

.. نزلت من الحافلة ببال شارد مكدر.. مشفق من حال الرجل المبعثر، فالمسكين لم يعد يدري ما يقدم وما يؤخر.. وقبل أن أصل باب غرفتي رن هاتفي برقم سري مشفر ..!!

    ..كنت قد وضعت بطاقة Maria    في هاتفي تحسبا لأي طارئ .. فقلت في نفسي لعل السويسري قد اتصل بها ليعلمها بالمستجد،  وأكيد أنها تتصل بي لتخبرني بالحل المعتمد .. ولكن ما كان ليخطر على بال أحد !!  أن المتصل هو نفسه صديقنا السويسري !!!!

   .. كان يحاول الاتصال ب Maria  في هذا الرقم الذي أعطتني إياه سابقا، وحين فشل في ذلك من خلال رقمها الخاص ، طلب مني أن أهاتفها من جهتي، وأن أعلمها بالمشكلة الجديدة، كما طلب مني أن أمده برقم غرفتي ليوافيني في صباحا، ويأخذني مع باقي زملائي إلى مطار زوريخ !

..     دخلت غرفتي وخلعت عني جلبابي والبلغة، وارتميت فوق الفراش لبرهة.. ثم حاولت الاتصال بMaria  في رقمها الآخر .. رن الهاتف كثيرا قبل أن تجيب أخيرا، لكنها لم تدعني أكمل حديثا، ولم تصغ لي قولا حثيثا، بل قاطعتني بلهجة جافة متعالية:

  • نم يا عزيزي.. فنحن لا نحل المشاكل ليلا!!

  .. أغلقت هاتفها ونامت، فحامت الهواجس بمخيلتي والنفس هامت.. فقمت أجمع المتاع قبل الضياع ورحت لأخبر الصحاب بالأحداث التباع ..

    عند عودتي لغرفتي هجرني النوم، وبت أرقب ساعة الحسم .. وما هي إلا دقائق حتى رن هاتفي من جديد، وإذا بالسويسري على الخط يطلب مني النزول إلى باب الفندق فورا .. انتفضت من الفراش، وأسرعت نحوه أتخطى السلالم فوجدته يقف بالخارج وبصحبته مدير المهرجان شخصيا .. وما إن وقعت عيني هذا الأخير علي، حتى جن جنونه وقصفني بوابل من السب والشتائم ، بينما تسمرت في مكاني أنظر إليه  لا أدري بأي ذنب أخذت، ولا أعلم بأي لغة هو يتحدث !!  .. حاول السويسري تهدئته بكل احترام وأدب لكنه تمادى في انفعاله برفع يديه وصوته حتى أنارت  مصابيح بعض غرف الفندق ونوافذ البيوت في الجوار.. وما كان من السويسري  إلا أن صرخ بأعلى صوته، ودفع المدير مبعدا إياه عني قائلا :

  • سيدي الوزير.. أنتم ترتكبون خطء جسيما ..!! إنه الشخص الذي أنقذ عرض Goran Bregovic   وأنقذ معه مهرجان Stimmen  من كارثة محققة !!! لقد تحمل مشاقا كثيرة ليصل مع رفقائه إلينا .. علينا أن نشكره بدل أن نحمله مسؤولية ما حدث..!!

   انصدم مدير المهرجان حينما أدرك خطأه وهو يلوم الشخص الغلط.. لكن صدمته لم تكن أكبر من صدمتي حين علمت أن من يخاطبني ليس مديرا للمهرجان فقط، بل هو وزير الثقافة بدولة سويسرا شخصيا ..!!! تغيرت ملامح السيد الوزير وتقدم نحوي مخاطبا بلغة فرنسية راقية، معتذرا ومبررا انفعالاته وتصرفاته ألا أخلاقية، فقال:

  • لقد وضعتموني في موقف محرج للغاية  .. فقد اتصلت بالسلطات هنا وفي إيطاليا، ورتبنا الأمور جميعا لتسهيل مروركم عن طريق مطار بازيل .. والآن أتفاجأ بهذا التغيير وفي الوقت الأخير ..!!

   .. طأطأ رأسه يفكر وهو يحك ذقنه ويخلل بأصابعه خصلات شعره الأبيض، ثم رفع رأسه وقال بصوت دافئ:

  • سأصحبكم بنفسي إلى مطار زوريخ .. عليكم أن تكونوا مستعدين بعد ثلاث ساعات من الآن ..!!

 .. ثم صافحني ورسم ابتسامة رقيقة على شفتيه وقال :

  • أشكرك باسمي وباسم دولة سويسرا على تضحياتك ومجهوداتك، وإني أحيي فيك أخلاقك العالية وروح المسؤولية لتحمل الواجب.. وقد استمتعت كثيرا بعزفكم رفقة Goran Begovic  رغم الظروف المناخية السيئة.. وأتمنى أن نراكم مجددا، وفي ظروف أفضل طبعا…!!

ثم وضع يده اليسرى فوق يدي وشد عليها بكلتا يديه وبكل احترام وتقدير قال:

  • أجدد اعتذاري عما بدر مني من فعل أو قول قبل قليل..

حينها أحسست بطيبة وصفاء قلبه وتواضعه وصدق نواياه فأجبته مازحا:

  • لا عليك سيدي.. فأنا لا أتكلم اللغة اليابانية!!! .. ضحك السيد الوزير من مزحتي واتجه نحو الحافلة يقودها صديقنا السويسري وعدت لأخبر أصحابي بما حصل.

  .. أحسست برغبة جامحة في النوم، فقد ارتاحت النفسية بعد هذه التزكية.. استلقيت على الفراش، وضبطت المنبه على الساعة الخامسة والنصف، وغبت عن العالم قرابة الساعتين استفقت بعدها لأبدأ يوما جديدا دعوت في فجره رب العالمين أن يسهل علينا صعبه وييسر أمره.. ثم حملنا الحقائب والآلات، ونزلنا نحو قاعة الاستقبالات، حيث كانت في انتظارنا سيدة في الثمانينات، أخذت منا مفاتيح الغرفة، ودعتنا لتناول الفطور الذي أعدته لنا بعد أن علمت بسفرنا في الباكر من الأوقات ..

   .. وصل صديقنا السويسري، وركبنا معه الحافلة كالمعتاد مع العتاد، بينما ركب خالي هشام مع السيد الوزير في سيارته الخاصة، وانطلقنا نطوي الطريق طيا نحو مدينة زوريخ.. وفي الطريق، اتصلت بي Maria من مطار بازيل حيث كانت تتأهب لركوب الطائرة رفقة فرقة Goran   لتعلمني بأننا سنلتقي بمطار زوريخ، وأننا سنذهب إلى روما جميعا على نفس الطائرة..

  .. حين وصلنا المطار تقدمنا السيد الوزير وأخذ منا الجوازات ثم اختفى بين المكاتب، ليعود بعد حين ويعلمنا أن مشكلة التأشيرة قد تمت معالجتها، ويمكننا دخول إيطاليا آمنين! في تلك الأثناء لحقت بنا Maria ومعها Goran   وباقي أعضاء الفرقة وذهبنا جميعا لتسجيل متاعنا بينما انصرف السيد الوزير عائدا إلى مهرجانه. وجلسنا جميعا ننتظر موعد الإقلاع.

 .. ارتفعت الطائرة محلقة بنا فوق جبال الألب حتى أصبحت قممها الشامخة تحتنا قريبة، مناظرها مكسوة بالثلوج عجيبة، زادتها المطبات الهوائية رهبة وهيبة، حتى أصبحت حالتنا داخل الطائرة عصيبة ..!!  كانت تتأرجح بنا يمينا وشمالا.. تعلو وتدنو وتزلزلنا زلزالا، حتى أحسسنا بمعدتنا عند حلقنا وأرواحنا بين يدي خالقنا.. اضطررنا لربط أحزمة الأمان بأمر من الربان .. وازداد الضغط الجوي على الآذان فارتفعت أصوات البكاء بين الصبيان .. وكنا نرى التوتر باد على المضيفات والوجل يعلو وجوه الركبان.. أما نحن المغاربة الشجعان، فكنا لا نتوقف عن الضحك والفكهان، حتى ظننا الجميع سكارى أو ندمان!!! والسبب أن أحد الخلان كان يحمل سبحة و يقرأ بسرعة القرآن، فلا يفقه قوله إنس ولا جان،  ثم يرفع سبابته مشهدا وينتفض مرتجفا  كالبهلوان، ولا زال على هذا الحال كلما اهتزت الطائرة أو مالت أو قامت بالدوران .. ولم يهدأ له بال حتى حطت بنا الطائرة بأمان على أرض روما عاصمة الرومان..

  .. اتجهنا رفقة عناصر فرقة Goran نتبع السيدة Maria   .. وتحدثت إلى أحد رجال السلطة الايطالية، فبادر هذا الأخير إلى أخذ جوازاتنا منا وقصد أحد الشبابيك، ثم راح ينادي علينا كل باسمه حتى تسلمنا الجوازات جميعا وعليها الأختام الجديدة، التي تسمح لنا بدخول روما المجيدة، وبقي أمامنا تسلم الحقائب العديدة، وهناك كنا على موعد جديد مع مشكلة فريدة ..!!

(يتبع..)

‏مقالات ذات صلة

Back to top button