
(كش بريس/ التحرير)ـ في زمن تتسابق فيه الدول الإفريقية لتثبيت مواقعها على خريطة الاقتصاد العالمي، يبرز المغرب كإحدى الوجهات الواعدة في جذب رؤوس الأموال الأجنبية، رغم ما يعتري المشهد من مفارقات هيكلية تعكس حدود النموذج الاقتصادي القائم.
فبحسب تقرير حديث لمنصة “ذا أفريكان إكسبوننت” المتخصصة في التحليل الاقتصادي، تمكن المغرب خلال سنة 2024 من جذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 1.64 مليار دولار، محققًا ارتفاعًا لافتًا بنسبة 55 في المائة مقارنة بعام 2023، وهو ما أهّله لاحتلال المرتبة العاشرة إفريقيًا من حيث تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية.
هذه القفزة، وفق التقرير، ساهمت في رفع المخزون الإجمالي للاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة إلى نحو 61.5 مليار دولار مع نهاية العام ذاته، ما يعكس ثقة متزايدة من قبل المستثمرين الدوليين في استقرار الاقتصاد الكلي والإصلاحات التدريجية التي تنفذها الحكومة في مجالات الجباية والحوكمة والرقمنة.
لكن هذه الأرقام، رغم بريقها الظاهري، تطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة هذا “الزخم” الاستثماري، ومدى ارتباطه بتنمية مستدامة تولّد الثروة داخليًا بدل الاكتفاء بجذب رساميل عابرة تبحث عن كلفة تشغيل منخفضة وسوق استهلاكية غير مشبعة.
🔸 جاذبية صناعية… بوجهين
يؤكد التقرير أن جاذبية المغرب تقوم على قاعدة صناعية متنوّعة نسبيًا، خاصة في سلاسل القيمة المرتبطة بصناعة السيارات والإلكترونيات والمكوّنات، وهو ما منح البلاد مكانة متقدمة ضمن الاقتصادات الصاعدة في شمال إفريقيا.
كما أن القرب الجغرافي من أوروبا، والبنية التحتية المتطورة نسبيًا في الموانئ والطرق واللوجستيك، يمنحان المغرب ميزات تنافسية لا تخفى على المستثمرين العالميين.
غير أن التحليل الأعمق يكشف أن الاستثمارات الأجنبية لم تبلغ بعد ذروتها التاريخية، بل ما تزال أقل من مستوياتها خلال العقد الماضي. والسبب، كما يشير التقرير، يكمن في تعقيد المساطر الإدارية، وضعف الانسجام بين مؤسسات الاستثمار، وبطء وتيرة الإصلاحات الهيكلية التي تضمن الشفافية والاستقرار التشريعي.
🔸 التحول الطاقي… أفق واعد أم رهانات مؤجلة؟
من جهة أخرى، يبرز التقرير أن التحول الطاقي ومشاريع الطاقة المتجددة باتت أحد عناصر الجذب الرئيسية، إذ يسعى المغرب إلى ترسيخ مكانته كـ“قوة خضراء” في القارة، من خلال مشروعات كبرى في الطاقة الشمسية والريحية والهيدروجين الأخضر.
غير أن ضعف الترابط الإقليمي في سلاسل التوريد الإفريقية، وغياب رؤية تكاملية بين دول شمال وجنوب الصحراء، يجعل من هذه المشاريع رهانات مستقبلية أكثر منها مكاسب حالية.
🔸 إفريقيا تتغير… والمغرب أمام اختبار الاستدامة
في السياق القاري، تشير “ذا أفريكان إكسبوننت” إلى أن إفريقيا استقطبت نحو 97 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2024، بزيادة 75 في المائة عن السنة السابقة، وفق بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد).
وقد تصدرت مصر القائمة بإجمالي 46 مليار دولار، تليها الكوت ديفوار (3.8 مليارات)، ثم موزمبيق (3.55 مليارات)، وأوغندا (3.31 مليارات)، بينما تفوقت غانا (1.67 مليار) والسنغال (أكثر من ملياري دولار) وناميبيا (2 مليار) على المغرب من حيث حجم التدفقات.
تُظهر هذه المعطيات أن المغرب، رغم حضوره الثابت في المشهد الإفريقي، ما زال بعيدًا عن مراكز الريادة الاستثمارية في القارة، وأن استمراره في هذا السباق يتطلب تحولًا نوعيًا في مناخ الأعمال والإنتاج المحلي بدل الاعتماد المفرط على جاذبية الموقع الجغرافي والاستقرار السياسي.
🔸 خلاصة نقدية: من استقطاب الرساميل إلى بناء القيمة الوطنية
إن الأرقام وحدها لا تكفي لتقييم فعالية السياسات الاقتصادية، فـ”الكم” لا يوازي بالضرورة “النوع”.
فالمطلوب اليوم ليس فقط زيادة حجم الاستثمارات، بل توجيهها نحو قطاعات تخلق فرص شغل نوعية، وتنقل التكنولوجيا، وتعزز سيادة الاقتصاد الوطني في مواجهة التقلبات العالمية.
ففي نهاية المطاف، يبقى السؤال المركزي:
هل ستتحول الاستثمارات الأجنبية في المغرب من أداة ظرفية للنمو إلى رافعة بنيوية للتنمية المستدامة والعدالة المجالية؟
ذلك هو التحدي الحقيقي الذي سيفصل بين الاقتصاد الصاعد والاقتصاد التابع في خريطة إفريقيا الجديدة.