
ـ تجربة المغرب في تقييم سياسات مكافحة الفساد ـ
(كش بريس/التحرير)ـ أكد محمد بنعليلو، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، على أن اختزال فعالية السياسات العمومية في حجم التقارير، أو كتلة النفقات، أو نسب التنفيذ، لم يعد مقبولًا في السياق الراهن، بعدما أثبتت التجارب أن هذه المؤشرات كثيرًا ما تنتج قراءات شكلية ونتائج منفوخة وسرديات مؤسساتية مطمئنة ظاهريًا، لكنها بعيدة عن حقيقة ما يعيشه المواطن. ووصف بنعليلو، خلال كلمته في اللقاء الدراسي المخصص لتقييم أثر سياسات مكافحة الفساد اليوم بالرباط، هذه المقاربة التقليدية بأنها تقديرات تمنح في أحسن الأحوال وهمًا بالنجاعة، لكنها تنتهي بفتح الباب أمام مزايدات لا تخدم الصالح العام.
وأشار رئيس الهيئة إلى أن هذا اللقاء يشكل لحظة تأسيسية لمرحلة جديدة من التفكير العمومي، تتجاوز مجرد التسليم بوجود سياسات إلى مساءلة ما أحدثته فعليًا داخل المجتمع، مؤكدًا أن الظرفية السياسية والمؤسساتية اليوم تفرض الانتقال من رصد الجهود وتراكم الإصلاحات إلى قياس النتائج الحقيقية وتحليل الأثر الملموس لما تنجزه المؤسسات في الواقع.
واعتبر بنعليلو أن الاستمرار في اعتماد مؤشرات شكلية متكررة يفضي، في العمق، إلى منافسة غير صحية على إرضاء المواطن بدل تقديم حلول فعالة له، مما يستوجب القطع مع هذه المقاربات الانطباعية التي تُغفل جوهر التغيير. وفي هذا الاتجاه، أوضح أن طرح مشروع الدليل الوطني لتقييم الأثر يعكس إرادة جادة في ترسيخ ثقافة جديدة قوامها التقييم الموضوعي والحساب المبني على الأدلة.
وأشار إلى أن أهمية اللقاء لا تكمن في عرض وثيقة جديدة فحسب، بل في تمثّل لحظة انتقالية يتشارك الجميع مسؤولية إنجاحها، وهي الانتقال من “ثقافة الإنجاز” القائمة على تعداد الخطوات والإجراءات، إلى “ثقافة الأثر” التي تقيس التغيير الفعلي في حياة المواطنين. وأضاف أن تسارع التحولات الاجتماعية يجعل من الضروري إثبات أن الموارد العمومية تُترجم إلى نتائج واقعية وملموسة.
وعرّف بنعليلو الأثر المنشود بأنه ليس مجرد رقم يدوَّن في تقارير وصفية، بل هو انعكاس لتحولات ملموسة في السلوك والممارسات، وتراجع محسوس في كلفة الفساد، وارتفاع مستوى الثقة العامة. واعتبر أن الانتقال إلى تقييم الأثر يمثّل إعلانًا عن نقلة منهجية تُحاسب المسؤولين عمّا يحدثونه من تغيير حقيقي، وليس فقط عمّا يقومون به من خطوات إجرائية، بما يعني التحول من سياسة تستعرض المنجزات إلى سياسة تسائل ما ينفع الناس ويصلح أوضاعهم.
وقدّم رئيس الهيئة الأسس العلمية لـ “الدليل العلمي لتقييم أثر سياسات مكافحة الفساد”، الذي يُعدّ ثمرة تعاون مع مجلس أوروبا، وأول مرجع وطني شامل منسجم مع المعايير الأوروبية في تقييم السياسات العمومية. وبيّن أن الدليل يرتكز على مفاهيم حديثة في التقييم مثل “نظرية التغيير” وسلاسل القيم، ويميز بوضوح بين التتبع الإداري والتقييم الحقيقي للأثر، معتمدًا منهجية تستند إلى معطيات مهنية دقيقة بعيدًا عن الاجتهادات الفردية والتأويلات الظرفية.
كما أبرز البعد الاستراتيجي للمشروع، الذي يسعى إلى بناء اللبنة الأولى لنظرية تغيير وطنية تربط بين المدخلات والنتائج والآثار بعيدة المدى، مؤكدًا أن الدليل ليس وثيقة مغلقة، بل مشروعًا مفتوحًا للتطوير المشترك يتيح للفاعلين العموميين اكتساب أدوات علمية تجعل من التقييم مسارًا مؤسسيًا دائمًا، وليس مجرد محطة إدارية عابرة.
وختم بنعليلو بالقول إن النجاح لم يعد يُقاس بتعدد النصوص أو كثرة الهيئات، بل بما يلمسه المواطن من تحسّن في محيطه وتراجع في الممارسات الفاسدة. وأكد أن الهيئة بصدد بناء منظومة جديدة تمنح للمواطن حقًا مستجدًا هو حقه في معرفة أثر السياسات المتخذة باسمه، بما ينقل الدولة من منطق التطور الكمي إلى منطق إنتاج تغيير إيجابي فعلي.





