فنون وثقافة

في حوار  ل(كش بريس) مع د.علي القاسمي: عندما كنت أترجم “الشيخ و البحر” قضيت ليلة كاملة على قارب للصيد ببحر الصويرة

أجرى الحوار: إلياس أبو الرجاء*

الدكتور علي القاسمي مفكر أديب مترجم عراقي جاء إلى المغرب بعد أن حصل على الدكتوراه في المعجمية والمصطلحية بجامعة تكساس بأوستن في الولايات المتحدة الأمريكية، ليدرّْس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1972، فوقع في حب المغرب : أهلاً وحضارة وطبيعة، فأقام فيه.

كتب في القصة والرواية والنقد والتنمية البشرية وحقوق الإنسان، وتُرجِم عددٌ من أعماله الأدبية إلى بعض اللغات كالإنكليزية والفرنسية والرومانية والفارسية وغيرها. وفي الشهر الماضي صدرت روايته ” مرافئ الحب السبعة” باللغة الفرنسية Les Sept Ports de l’amour
 عن دار لارماتان L’Harmattabn  في باريس. كما كتب بحوثه المتخصصة باللغتين الإنكليزية والعربية. ومن أهم أعماله كتاب Linguistics and Bilingual Dictionaries   (اللسانيات والمعاجم الثنائية اللغة) الذي نشرته دار بريل في لايدن بعدّة طبعات، إذ تعتمده الجامعات الناطقة بالإنكليزية مرجعاً في الموضوع. ويعدّ القاسمي رائداً في صناعة معاجم الاستشهادات.

ألَّف القاسمي أكثر من خمسين كتاباً، وأُنجِز عن أعماله أزيد من خمسين رسالةً جامعية وكتاباً.

وقد آثرتُ أن يتناول حواري الأول معه بعض قضايا الترجمة.

س – تلقيت تعليمك في جامعات مختلفة حول العالم بين العراق ولبنان والنرويج وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. هل لهذا التنوع في المشارب الثقافية أثر على شخصية علي القاسمي الأدبية؟

ج  ـ ما تفضلت به هو عين الصواب. كان لذلك التنوع أثر إيجابي عليَّ. وهذا قانون كوني. ففي التنمية البيئية، مثلاً: كلّما تنوعت نباتات البيئة وحيواناتها وطيورها، كلّما ازدادت نمواً وتطوراً. وهذا ينطبق على البشر وعلى ثقافتهم كذلك، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: ” اغتربوا لا تضووا” في النهي عن زواج الأٌقارب”. وحث القرآن الكريم الناس على التعارف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…). والتعارف هنا لا ينحصر في التعرّف على الآخر، بل يعني كذلك اكتساب المعرفة منه وتبادلها معه.

وفي الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية، يُشجَّع الطالب الذي يريد مواصلة دراسته بعد الماستر، مثلاً، على دراسة مرحلة الدكتوراه في جامعة أخرى، ليطلع على طرائق مختلفة، وأراء متباينة، تجعل معارفه أشد متانة. والتنوع الثقافي في البلاد يزيد فيها الإبداع والابتكار.

 س – ذكرت في دراسة عنوانها “في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة سابقا” أن أمانة المترجم ليست مرهونة بنقل المضامين فقط، بل بنقل الأساليب أيضا. كيف للمترجم أن يجمع بين هذين الفعلين دون تطاول على النص الأصلي؟

ج ـ إن إنجاز التكافؤ في الترجمة يتطلّب تحقيق ثلاثة أنواع من التماثل بين النص الأصلي والنص المُترجَم:

 1ـــــ التكافؤ اللغوي، أي نقـــل العناصر اللغوية للنصِّ بصورة جيّدة. وهذا يشمل المضامين.

2ــــ التكافؤ الثقافي، أي نقل العناصر الثقافية الظاهرة والمضمرة للنص، وهذا يشمل ثقافة الكاتب الأصلي.

3ــــ التكافؤ الجمالي، أي نقل الأثر الجمالي الذي يحدثه النص الأدبي الأصلي على متلقّيه في لغته، بحيث يُحدِث هذا الأثرُ الجماليُّ الوقعَ ذاته على متلقّي الترجمة، وهذه المرحلة الأخيرة أصعب مرحلة في الترجمة الأدبية. وهذا يشمل الأساليب.

وشرط التكافؤ بين النص الأصلي والنص الهدف في الترجمة، بأبعاده الثلاثة: اللغوي والثقافي والجمالي، أصعب بكثير وأشد تعقيدا من شرط التكافؤ بين الزوج والزوجة في الفقه الإسلامي.

س – هناك من يعتبر أن تأليف كتاب أصعب من ترجمته. أنت زاوجت بين الكتابة والترجمة، أيهما أصعب في نظرك؟

ج 3 ـ تنتج الصعوبة في أي عمل من أحد أمرين:

الأول، النقص في التأهيل اللازم للقيام بذلك العمل، وهذا يتضمَّن الخبرة المطلوبة لتأديته.

والثاني، عدم محبة العمل وعدم الاستمتاع به. فبالحب ينفعل الوجود.

ولكي تكون سعيداً في حياتك، ينبغي أن يكون تفكيرك إيجابياً، وتحبّ البلاد التي تعيش فيها، وتحبّ الناس الذين تخالطهم، وتحبّ العمل الذي تزاوله.

س – سبق وكتبت أن الترجمات العربية السابقة لقصة “الشيخ والبحر” لم تنقل مضامين القصة بدقة. ما الذي يميز ترجمتك لهذا العمل عن باقي الترجمات العربية السابقة؟

ج  ـ إن مقالي الذي تفضَّلتَ بذكره في سؤالك الثاني، ” في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة سابقاً،” وهو بحثُ أعددتُهُ استجابة لطلب من كلية الآداب بجامعة القاهرة لنشره في مجلتها ” لوغوس“، كان عليَّ أن أقوم بترجمة عمل أدبي سبق أن تُرجم كثيراً إلى اللغة العربية. ودلني الاستقصاء أن أهم الأعمال الأدبية التي نُقلت إلى اللغة العربية في العصر الحديث هما: ” رباعيات الخيام” التي تُرجمت إلى العربية أكثر من خمسين مرة، و” الشيخ والبحر” لهمنغواي الذي تُرجم إلى العربية أكثر من ثلاثين مرة. وبما أنني لا أجيد اللغة الفارسية، ولا أحبذ الترجمة عبر لغة وسيطة، فقد وقع اختياري على ترجمة “ الشيخ والبحر“. وبعد أن ترجمتُ الكتاب قارنته باثنين من الترجمات السابقة، فوقفت على ما يأتي:

قبل كل شيء، لا توجد ترجمة كاملة، لا ترجمتي ولا ترجمة الاخرين، لأن الترجمة عملية معقدة. فالمترجم وسيط بين لغتين مختلفتين، وبين ثقافتين غير متطابقتين، وبين شخصيتين متباينتين هما الكاتب الأصلي، والقارئ المُترجم له. والنجاح في الترجمة نجاح نسبي، يعتمد على نسبة التكافؤ الثلاثي الذي يتمكن كل مترجم من إنجازه.

ففي التكافؤ اللغوي مثلاً يختلف المترجمون في اختيار الألفاظ من بين ألفاظ مترادفة أو شبه مترادفة، وفي تركيب الجملة، أي نظم تلك الألفاظ في عبارات يُقدَّم بعضها على الآخر، من أجل تيسير فهم النص المُترجَم.

وفي التكافؤ الثقافي، يسلك المترجمون طرقاً مختلفة، فإذا ورد اسم ” طارق بن زياد” في نص عربي يُراد ترجمته إلى اللغة الرومانية، مثلا. ماذا يفعل المُترجم بهذا الاسم الذي يشكّل جزءً من الثقافة العربية الإسلامية، ولكنه ليس كذلك في الثقافة الرومانية؟؟! هل يضيف جملة اعتراضية للتعريف بهذا الاسم في متن النص؟ أم يضعها في الهامش؟ أم يدمجها دمجاً في النص المترجَم كما لو كانت موجودة في النص الأصلي؟ وأي طريقة أفضل.

في الشهر الماضي، نوقشت أطروحة دكتوراه وأجيزت، قدّمها في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس الباحث مصطفى سنون بإشراف الدكتور يونس لوليدي، عنوانها ” الترجمة والتأويل وتحديات ترجمة النصوص الأدبية؛

ترجمة منير البعلبكي وعلي القاسمي لرواية الشيخ والبحر لإرنست همينغواي نموذجا”.

وكان المرحوم منير بعلبكي ناشراً فهو صاحب دار العِلم للملايين، وكان يُلقَّب بشيخ المترجمين العرب، وهو مؤلّف أفضل معجم إنكليزي ـ عربي حديث، وقد ترجم ” الشيخ والبحر” حال صدورها في أمريكا قبل قرابة خمسين عاماً. وأنا أعّد نفسي مجرّد واحد من طلابه والمنتفعين بعلمه ومعجمه، رحمه الله. ومع ذلك فإن الباحث الفاضل وجد إخفاقات في ترجمة شيخ المترجمين العرب، وفي ترجمتي كذلك ذكرها في أطروحته. وأحسب أن الذائقة الأدبية كذائقة الطعام تختلف من شخص إلى آخر. فالأسلوب ليس معادلة في الجبر أو الهندسة..

س – كما هو معلوم، للنص حرمته التي يجب على المترجم ألا ينتهكها، وهوية ينبغي ألّا تضيع، وبالتالي فالمترجم هنا مقيد بمجموعة من المسؤوليات الأخلاقية. ألا يؤثر استحضار كل هذه الهواجس على المترجم أُثناء عملية الترجمة؟

ج ـ إن المترجم يدرك جسامة مسؤولياته، بيدَ أن الفجوات المعجمية والثقافية والجمالية بين اللغة الأصلية واللغة الهدف تضطره أحياناً إلى اقتراف خروقات في النقل . ولهذا يوجد مثل إيطالي مشهور هو: Traduttore, traditore

     ” المترجم خائن”. وقرأتُ دراسة ذات مرة لباحث أكاديمي كندي يتساءل فيها لماذا لا تمتلئ السجون بالمترجمين الذين يقترفون جرائم الخيانة، والاحتيال، والسرقة والكذب والحذف والإضافة وغيرها!

دعني أضرب لك مثلاً عمليا عايشته بنفسي: عندما انعقد مؤتمر تأسيس ” المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكوـ” بفاس سنة 1982 حضره ممثلو البلدان الإسلامية، ومنها إندونيسيا. وعندما أُرسِل ميثاق المنظمة لتلك البلدان للتوقيع عليه، تأخرت إندونيسيا في الاستجابة.  وبعد مدة تساءل المدير العام للمنظَّمة المفكر السياسي المرحوم عبد الهادي بوطالب، عن سبب التأخير. أكتشفَ أن النص الإنكليزي الذي أرسل إلى وزارة الخارجية الإندونيسية في جاكارتا، يتكلّم عن الدول الإسلامية Islamic States وليس عن البلدان الإسلامية    .  Islamic Countries         وفي الدستور الإندونيسي، لا تُعدّ إندونيسيا دولة إسلامية على الرغم من كونها بلدا إسلامياً. والفرق كبير بين المصطلحين قانونياً وسياسياً.

س – لماذا إرنست هيمنجواي بالضبط وليس غيره من الكتاب الأمريكيين الكبار، بول أوستر مثلا؟

ج 6 ـ لأنه لا توجد في البلدان العربية مؤسسة مسؤولة عن الترجمة إلى اللغة العربية: أهدافها، ومجالاتها، وكمياتها، ونوعياتها، وحقوق المترجمين، إلخ. بلى توجد مؤسسة بالقاهرة أسسها الصديق المرحوم الدكتور جابر عصفور، ولكنها صغيرة خاصة بمصر.

ولهذا فإن الترجمة تخضع لذائقة المترجم وتقديره وميوله. ومن ناحيتي، ترجمتُ بضع روايات أمريكية، اثنتان منها لهمنغواي. والسبب في ذلك أن همنغواي، في تقديري، أشهر روائي وقاص في تاريخ الأدب الأمريكي، اضطلع بتجارب عديدة في لغة السرد عندما كان مراسلاً صحفياً مقيماً في باريس في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، واستطاع تغيير اللغة الأدبية في أمريكا وتبسيطها، كما تمكّن من ابتكار ” أسلوب ” خاص به يُسمونه ” أسلوب جبل الجليد“، لأنه يستدعي مشاركة القارئ في الإبداع. فالقارئ يرى قمة جبل الجليد في البحر ولا يرى قاعدته الضخمة المغمورة في الماء، وعليه أن يتخيلها، ويملأ الفراغات في النص. ولقد تعلمتُ كثيراً من همنغواي وتأثرتُ به، وبغيره من كبار الكتاب، في قصصي ورواياتي.

س ـ أثناء استعدادك لترجمة “الشيخ والبحر”، أمضيت ليلة كاملة في مركب شراعي صغير بمدينة الصويرة. ماهي المدينة المغربية التي تساعدك على الإبداع أكثر؟

ج  ـ جميع المناطق المغربية جميلة ملهمة تساعد على الإبداع والكتابة. ولكني في الوقت الذي كنتُ أستعد لترجمة “الشيخ والبحر” كنتُ ضيفاً على طبيب صديق في مدينة الصويرة الجميلة. وكنا نتناول بعض وجباتنا في ميناء الصيد التاريخي في المدينة. وشعرتُ بأن من المفيد جداً لي أمن أقف عملياً على مجريات صيد السمك ليلاً. وينبغي  أن أتفق مع أحد الصيادين الذي يملك قارب صيد شبيه بقارب همنغواي الذي كان يمارس به الصيد في شواطئ هافانا بكوبا. قارب يتسع لراكب أو لراكبين فقط، ويحتوي على مجذافين للتجذيف عند الخروج من المرفأ كما أنه مزود بشراع يساعد على التنقل وسط البحر أثناء انشغال الصياد بشباكه. وعندما تحدثت إلى الصياد صاحب القارب المطلوب عن إمكان مرافقته وشرحت له السبب، قال بأريحيته المغربية : 

ـ مرحباً بك.

فسألته:

ـ وكم أدفع لك؟.

أجاب مع ابتسامة كريمة:

ـ لا شيء . أنا الذي أدفع لك، لأنك ستؤنسني.

وخرجنا من المرفأ قبيل منتصف الليل وعدنا مع الفجر محملين القارب بالسمك.  وهذه من الليالي التي لن أنساها ما حييت، وزادتني حباً بالمغرب وأهله الكرماء.

الدكتور علي القاسمي ومحاوره

س ـ ما مشروعاتك القادمة في الترجمة؟

ج :  تشكّل الترجمة جزءاً صغيراً من اهتماماتي العلمية والأدبية. ففي الشهور القليلة الماضية كنتُ منشغلاً في كتابة قصص قصيرة، أَطلقَ عليها الشاعر الكبير الناقد الدنماركي (الدكتور قصي الشيخ عسكرـ عراقي الأصل يقيم في لندن) اسم ” قصص السيرة” واعتبرَ أنها نوع جديد من أنواع القصة القصيرة. وستصدر هذه القصص في مجموعة قصصية عنوانها ” الآنسة جميلة وقصص أخرى” عن دار الثقافة في الدار البيضاء، هذا العام إن شاء الله.

كما أكملتُ كتاباً جديداً عنوانه ” قصص همنغواي الإفريقية: ترجمة ونقد مقارن” وهو لدى أحد الناشرين اللبنانيين، وقد تأخر صدوره بسبب الجائحة وظروف لبنان، التي نأمل أن يتجاوزها بنجاح.

س  ـ معظم ترجماتك كانت من الإنجليزية إلى العربية. ألا تشكل الترجمة من العربية للإنجليزية أهمية بالنسبة لك؟

ج  ـ جميع ترجماتي من الإنكليزية (ونادراً من الفرنسية) إلى العربية. فأنا لا أترجم إلى الإنكليزية، بل أكتب بالإنكليزية بعض مؤلَّفاتي العلمية عن المعجمية والمصطلحية. وفي درس الترجمة، يُفضَّل أن يُترجِم الفرد إلى لغته الأم، وليس إلى اللغة الأجنبية. وهذا ما تسير عليه منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات المتفرعة عنها كاليونسكو، وغيرها. فالإنسان أقدر على التعبير في لغته الأم عن الأفكار التي تدور في ذهنه. والاستيعاب والتعبير مهارتان لغويتان، بيدَ أن التعبير أصعب من الاستيعاب. ولهذا يفضل أن يضطلع المترجم بالتعبير عن الأفكار إلى لغته الأم، تخفيفاً من صعوبة التعبير.

س  ــ ساهمت في إغناء المكتبة العربية بعشرات المؤلَّفات في علم المصطلح وصناعة المعجم والترجمة والقصة والرواية. هل علي القاسمي راض عمّا أنجزه أم أنه لازال يتطلع للأفضل؟

ج  ـ شكراً على لطفك، فأنا لا أحسب أنني أغنيتُ المكتبةَ العربية، فهي مفتقرة إلى كثير من الجهود لتبلغ ما تستحق بوصفها أمَّ اللغات العالمية جميعاً. فقد أثبت بحثٌ علميٌّ حديث اضطلعت به جامعتا ليدز في بريطانيا وجامعة بورتو في البرتغال، واستغرق سنوات طويلة، واستخدم تقنيات عديدة مثل تحليل الجينات، وتحليل الخلايا، وتحليل الحمض النووي، للإجابة على سؤال واحد : هل البشرية من سلالة واحدة أم من سلالات مختلفة؟

       فقد كان العلماء في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين يزعمون أن البشرية انحدرت من ثلاث سلالات: البيضاء في أوربا، والسوداء في إفريقيا، والصفراء في آسيا؛ وأن السلالة البيضاء أذكاها وأرقاها، وعليها واجب استعمار بقية الشعوب لتمدينها وترقيتها. ولكن هذا البحث العلمي الجديد أثبتَ أن البشرية جميعها من سلالة واحدة نشأت وترعرعت في جنوبي جزيرة العرب. وقبل حوالي 70 ألف سنة انطلقت رحلات، مما يسمى اليوم بسلطنة عُمان، واتجهت شرقا إلى آسيا بحرا، وإلى أوربا براً عن طريق إفريقيا والشرق الأوسط، وهكذا سُكِنت المعمورة. ونشِرت نتائج هذا البحث المدهش مجلتان اطلعتُ عليهما سنة 2012 هما المجلة الأمريكية للجينات البشرية، American Journal of Human Genetics

في عددها لشهر فبراير 2012، وكذلك مجلة لوبوان الفرنسية Le Point التي نشرت مقالاً للعالِم الفرنسي لوينو بعنوان مثير ” كلنا عرب”  Nous Sommes tous des
arabes”  (تستطيع أن تطلع على المقال بواسطة هاتفك المحمول المتصل بالشابكة.

ولهذا فإن اللغة العربية الأم واللغات التي تفرّعت منها وتسمى باللغات الجزيرية كالأكدية والعبرية والسريانية والكنعاية والأمازيغية وغيرها، هي التي انتقلت إلى بقية أنحاء المعمورة وتحولت إلى لغات جديدة بسبب الظروف الجغرافية والمناخية وغيرها، وبقيت كثيرٌ من المفردات ألأساس للغات الجزيرية في اللغات الجديدة. والمبدأ في علم التأثيل أن هجرة اللسان من هجرة الإنسان.

وعلي الرغم من هذه المكانية التاريخية السامقة للغة العربية الفصيحة (وهي الأقرب إلى اللغة العربية الأم، كما أثبتَ علماء اللسانيات المقارنة، فإن العربية تحتل الرتبة 17 في مقياس “مقدار المحتوى الشابكي” (أي محتويات أكبر 10 ملايين موقع على الشابكة). أي أن رتبة العربية تقع بعد اللغات البرتغالية والإيطالية والفارسية والصينية والبولونية والهولندية والتركية والتشيكية والكورية والفيتنامية. والسبب في ذلك أن الدول التي تستعمل تلك اللغات تعلِّم بلغاتها الوطنية جميع العلوم والآداب، أما لبلدان العربية فتعلم العلوم اليوم بلغات المستعمِر القديم كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وأية لغة أخرى ما عدا العربية. وهكذا فأطباؤنا ومهندسونا وعلماؤنا لا يستطيع أغلبهم إنشاء  مواقع شابكية في مجال تخصصاتهم، أسوة بنظرائهم في تلك البلدان، إما لعدم فهمهم لتلك العلوم فهما عميقاً عندما درسوها بلغات أجنبية في جامعاتهم، أو لعدم تمكنهم من التعبير بتلك اللغات الأجنبية. وهذه ظاهرة خطيرة على التنمية البشرية، لأن العلم يبقى محصوراً في نخبة تجيد لغة التعليم العالي، على حين أن المعرفة في تلك البلدان المتقدمة تكون مفتوحة للجميع لأنها باللغة الوطنية.

وعلى كل، فجواباً على سؤالك الكريم: أنا لم أفعل شيئاً يُذكر. أنا مجرد طالب علم يجد راحته في القراءة والكتابة.

* طالب بالمعهد العالي للصحافة

‏مقالات ذات صلة

Back to top button