‏آخر المستجداتالمجتمع

“تأملات قرآنية” يكتبها د/ م علي الخامري (الحلقة3)

( بعض مظان الإيمان والكفر في القرآن الكريم )

توطئة :

كما كان الدَّأَب ، وصارت العادة في استقبال شهر الله رمضان الكريم ، وكما جرت أمور السلف الصالح حين كانوا يتركون كل العلوم والمعارف ويلتفتون إلى كتاب الله العزيز قراءة وتفسيرا ومدارسة يسعدني أن أحيي في نفسي ، وفي كل من يود الانضمام هذا المنهج الحسن ، وألتفت بدوري إلى مائدة القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل ، وأطل من خلالها على ما استقر في النفس ، ونُسِجَت معه علائق القراءة والتفكر والتأمل عبر مجموعة من وقفات تَدَبُّرِ آي الذكر الحكيم ، وأتمنى من العلي في علاه أن يوفقنا ، وينفعنا ، وينفع بنا ، ويثيبنا على أعمالنا ، ويجعلنا من أهل القرآن ومن خدامه الغيورين عليه بالعلم والمعرفة ، والمنافحين عنه بالعمل والإنجاز ، وإيصال الآثار الحسن إلى كل قلب مومن متعطش للاستفادة والاستزادة من معانيه وأسلوبه ، ودُرَرِه ، وبراعة سَبْكِه ، وسلاسة هديه ، وقوة أفكاره ، وبلاغة أحكامه وحِكَمِه .

الحلقة الثالثة : بعض مظاهر الكفر كما وردت في سورة الأنعام

من السور القرآنية التي حفلت كثيرا بثنائية الإيمان والكفر ، وفصلت فيها القول عن طريق ذكر مجموعة من محاصيل الكفر وصوره سورة الأنعام ، وتعتبر بذلك نموذجا حيا في المطالعة والتربية والاعتبار ، ومقارنة أحوال الإنسان عبر حِقَب كل تاريخه الطويل ، وتذكرنا كذلك بخاصية أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان ، وهي بنماذجها تعتبر من الأوضح والأكمل المستمر الدال على حقيقة الإنسان وإلى يومنا هذا .

فبالرغم من تبدل الأحوال ، وتغير الأزمنة والأمكنة إلا أن الإنسان عند التصنيف والفرز بقي كما كان الأمر دائما في مسألة الإيمان والكفر ، وسنرى من خلال تتبع صور الكفر في سورة الأنعام ما يمكن أن يصلح نعتا للإنسان بالتجبر في علاقته بربه ، وبالتقلب في مواقفه ، ويسمح لنا بإدراك الحمق الوجودي المصاحب له ، وبالسخاقة الفكرية المُرادِفة تدبيرَه لموضوع الإيمان والكفر :

1 – صورة الجحود المصاحبة للإنسان بعد كل هذا الكم الكبير من الأنبياء والمرسلين ، وبعد بسط ومعالجات مضامين الكتب السماوية المختلفة التي تتالت في النزول من أجل إثبات حقيقة الوجود ، وإبعاد الإنسان عن مشانق الكفر .

فسورة الأنعام في آياتها الأولى قدمت لنا مختصرا لمجموعة من مواقف التيه لدى الإنسان وبصيغ لغوية متنوعة ولكنها دالة على المجتمع الآدمي المراد حتى ختمت حديثها عن الجحود بما وقع لنبينا عليه السلام لما كذبه قومه ، وجحدوا دعوته ، وهنا ومن باب التسلية عليه ذكره الله بأحوال الرسل والأنبياء قبله ، وأكد على أن أمر الهداية هو من الله وحده ، وكأن فعل الإنسان تحول إلى نمطية جامدة ومتكررة بالرغم من التبدلات المتلاحقة على مستوى الأزمنة والأمكنة ، وبالرغم من كل الدلائل المبسوطة والدالة على الخالق الأوحد في عليائه وربوبيته ، قال تعالى انطلاقا من الآية : 33 : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) .

2 – المرتبة الثانية من مزالق الكفر هي القسوة ، ولعلها بمعان متعددة : منها القسوة على النفس التي تُرغَم على العيش في نمط مخالف للفطرة السليمة ، ومنها مخالفة كل الحقائق الوجودية المترامية على الآفاق ، ومنها الغباوة التي ستُدرَك في نهاية مشوار الحياة عندما يتقدم العمر ، وتظهر عليه علامات الضعف والهوان ، وعدم قدرته على المسايرة بالأوصاف الماضية ، وقد رأينا أمثلة عديدة من مثل هؤلاء تُقدِم على الانتحار هروبا منها من الحقائق الماثلة أمامهم ، وفي ذلك مغزى ومعنى الأخذ بالضر والبأس والقطع كما يدل عليه قوله تعالى بدءا من الآية : 42 : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

3 – المرتبة الثالثة مرتبة الفسق : وقد جاءت في سياق المقارنة بين حالي التبشير والإنذار كما لخصت لنا الصيغة الحقيقية لمعنى الكفر ، وتتمثل في الخصومة الشخصية المتواصلة بين جمع المومنين وجمع الكافرين بسبب الاختيارات الموفقة للأنبياء ومن صار على دربهم ، وهو ما اقتضى مقارنة إلهية أخرى بين الأعمى والبصير ، قال تعالى في الآية : 48 وما تلاها : ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ) .

4 – مرحلة الخوض في الحقائق بغير علم وقد سماها رب العزة ظلما ، وهو ظلم متنوع فيه من المكابرة والجحود المتواصل ما يجعله نشازا في الوجود ، نتذكر معه معاني الختم على القلوب وطبعها على الكفر الدائم ، قال تعالى في الآية : 68 : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وقال في الآية : 93 : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ومرحلة الخوض في الحقائق الأزلية بغير علم لها معالجات أخرى ، وبصيغ جديدة ومتنوعة ، وسنقف على بعض أمثلتها السلوكية الواصلة إلى حد الكفر في الحلقة المقبلة بحول الله .

5 – الوصول إلى درجة السوء : والمنتبه لسياقها سيلاحظ أنها ارتبطت بمفاهيم الشرك الأولية ، وأنها تدل على تخبط الإنسان السلبي في المسألة ، فقد أدرجت في مشهد فعل الكفار بنعم الله ، حيث يقسمونها إلى قسمين متساويين بين الإله الحقيقي ، وبين الآلهة الأخرى المزعومة ، ولا أجد في الموضوع دلالة أوضح وأقوى مما قاله الجلالان في تفسيرهما : ( فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه ، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه ، وقالوا : إن الله غني عن هذا – ص : 150 ) مصداقا لما جاء في الآية : 136 : ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .

سورة الأنعام لم تكتف بسرد مظان الكفر وأوصافها المتعددة كما رأينا ، إنما عمقت البحث في قضاياه المختلفة ، ولم تَحِد فيه عن الغايات المناسبة لتكوين الإنسان ، ولطريقة الإرشاد إلى الأصلح المساير لمظاهر الكون ، وللحرص عليه بأن يكون كل ذلك مخولا له بحواسه كلها قصد الفهم والإدراك والاعتبار ، لعله يظفر في النهاية بحياة طيبة ، عامرة بالإيمان ، وساعية إلى الاقتراب من الله سبحانه في علاه ، ولهذا وُصِفت الذات الإلهية فيها بوصف ( القاهر ) المدبر والمتحكم في موضعين ، دلالةً منه على مفهوم حقيقة غنى رب العزة الدائم ، وترفعه عن جميع مكونات ملكوته ، بما فيها الإنسان ، وإشارة منه كذلك إلى أن هذا الطريق ما وُجِد إلا لصالح الآدمي ، فنفعه عام ومفيد له ، ويدخل في باب الرحمة المحيطة به ، والإشفاق المقرون بوجوده ، قال تعالى في الآيتين : 18 / 61 : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ) .

ومن المبادئ القيمة داخل السورة المذكورة هو ختمها بنبرة إيمانية عالية ومطلوبة من لدن جميع الناس ، وتعتبر تصريحا واضحا يحتوي على معاني الهداية والتبجيل ، وإثبات حقيقة الألوهية لصاحبها الأوحد الصمد ، وإقامة الحجج على وجاهة طريق الإيمان ، وقوة دلائله المبسوطة أمام الإنسان في نفسه وفي وجوده ، والتنبيه على المآل والمصير المنتظر في نهاية كل حياة ، قال تعالى انطلاقا من الآية : 161 : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

ونعم الختم

( يتبع .. )

‏مقالات ذات صلة

Back to top button