‏آخر المستجدات‏صوت المواطنلحظة تفكير

مُصْـطَـــفَى غَـــلْمَــان: “جينيالوجيا” ساحة جامع الفنا بمراكش.. القيمة والاعتبار

( لا ينحصر القول في ذات الساحة، فالسعادة الناطقة عندما تهنأ بذوات المتحلقين، ينجلي عمق الكون بالحاضرة، ويتماسك روح النص، الغنائي والسردي والحركي، ليصير الاشتباك أكبر تأثيرا وأعلى اتساقا..) ـ غويتوسولو ـ

روبوت يرقص في جامع الفنا:
هذا العنوان ليس خيالا، إنه حقيقة تداولتها منصات التواصل الاجتماعي ونقلتها وسائل الإعلام الإلكتروني والمطبوع، معززة بفيديوهات حية وثقت مشاهد يظهر فيها شابان يرقصان على إيقاع موسيقى غربية صاخبة، وبينهما روبوت يحاول تقليدهما حد التماهي، في لحظة لم تكتمل …
هناك إحالة غريبة على هذه النسخة الجديدة من زمكانية “جامع الفنا ” ، الذي يحوي أصنافا من الفنون الشفاهية اللامادية، والتي تحبل بكل معاني الثقافات المحلية والنزوعات المتصلة بها.
وفي الوقت الذي تنجلي فيه رغبة مسؤولي الثقافة والتراث، في تكريس جزء من هذه الذاكرة، وإعادة عرضها وتوجيهها، في مضمار ما تم تقديمه في افتتاح متحف جامع الفنا، تتوارى أسئلة الراهن وتتشكل في حدود مواضعات أكثر عمقا وتأثيرا، خصوصا فيما أضحى يطرح الآن حول إعادة التفكير في هيكلة الساحة الشهيرة وربطها بالمستقبل، وتنظيم فهوم سياقاتها الكبرى بالتراث اللامادي الحديث وارتباطاته الانثروبولوجية والتاريخية بالمجتمع والحضارة.
وإذا كان العامل التكنولوجي، وتطور إمكانياته المادية، بما يسهم في توسيع مدارك العرض “اللامادي”، في كل محطاته التي أنتجت عوالم متخيلة وسردية من “الفانتستيك”، قد أعاد تأطير أسئلة الراهن وأفقه الداعمة للتفكير البديل وإعادة الإذعان للتنسيخ والاستنساخ وضعف المردودية. فإن حضارة “الذكاء الاصطناعي” تجافي هذا الاعتبار الواهن في عمران الذاكرة ونظامها السيروري واقتبالها على تمكين الأجيال الجديدة من فهم “الخصوصية” و”التحول الثقافي” و”طفرة المجتمع الجديد”، لكأننا نستشف جزءا من “حضارة الكهرباء”، التي “لمْ تُضِئْ الظلام الداخلي” بعد، وفق تعبير ادغار موران، منقبين عن أشكال جديدة لتحويل مدارة الإضاءة نافذة مشعة لكشف الحجب وتحييدها عن شغر أحواز العتمات والغوامض ..
التراث مغيب قسريا:
هناك جانب مهم، مغيب في علاقتنا بتراثنا اللامادي، الشفاهي على وجه التحديد، وهو عدم تقديرنا لمنظومة القيم والسلوكيات الممارسة داخل الساحة ومحيطها.
فالعلاقة المضمرة، التي ترتبط بمجال العلاقة بين المنتفعين العارضين (مائدة البطن والتجارة والحلقات)، هي في أدق جزئياتها لا تترجم الصورة الرمزية للذاكرة الجماعية، ولا حتى حضارة المدينة، وبالتالي، نحن بحاجة ملحة إلى استدراك جانب رصد الاختلالات القيمية المنسوجة، وفواعلها التي تتماس مع كل ما هو اجتماعي ونفسي.
والحالات التي تم تسجيلها في أفق إعادة قراءة الظواهر المرتبطة بهذا المجال، تفتح أسئلة واستفهامات شديدة الحساسية، لها علاقة مباشرة بممارسات شاذة ومتفرقة، كالشذوذ الجنسي والبيدوفيليا والسرقة والغش والتسول والقبح.. إلخ.
إن استعادة هذه المظاهر في ظل التعتيم الممارس في وسائل الاعلام، وإحجام المسؤولين عن محاولة قراءة الوضعية، وإيجاد حلول تحد من انتشارها وتداعياتها، يفرض مقاربة سوسيوثقافية واجتماعية مستعجلة، ترقى فيه نظرة المسؤول الجماعي والفاعل الثقافي العضوي والخبراء والجامعة والأكاديما، إلى مستوى وضع الأيدي على الجراحات، ورتق الخدوش وآثارها في صورة المغرب خارجيا، وتصحيح المسار بما يتوافق والصناعة السياحية والثقافية التي صارت علامة قطعية في باراديجم العولمة وامتداداتها الإعلامية والإشهارية والتواصلية بشكل عام.

إحياء الجذور وترميم الذاكرة

يمكن التأسيس لعوائد جديدة ومثلا قيمية متلائمة ووضعية التراث اللامادي، كما هو متعارف عليه دوليا، حيث يجزي النظر في اعتبار الموروث الثقافي والشفاهي لساحة جامع الفنا، أحد أهم الشرطيات المكتسبة للإحياء والترميم.

وأعتقد أن العمل التأريخي والتوثيقي لهذه الملحمة، سيكون من ضمن إواليات هذه الخطوة، بالإضافة إلى مأسسة المشروع وجعله قابلا للتطبيق. وهو ما كرس له المؤرخ والمثقف المتعدد الدكتور حميد التريكي واجهة عميقة في مقصورته الفكرية طيلة سنوات عديدة، مكتنزا نصوصه السردية المشمولة بوصفيات وحفريات الساحة وشخوصها وسيروراتها المتعاقبة، وأنماط عيشها وتنوع مخزونها.

وتواصل هذه الارتباطات الثاوية والمبادلة لأنساق الحياة الثقافية التقائيتها في العديد من عناصر “المشترط الإنساني والكوني”، كشكل من أشكال الحوار بين الشعوب والحضارات، وتعميق حدودها واتساعها، حيث يمكن هنا التذكير بمبادرة السفير البريطاني في المغرب، سايمون مارتن، الذي تقمص دور حكواتي وسط ساحة جامع الفنا، بارتدائه بذلة ساحر وهو يحكي عن قصة عشق رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل (1874/1965)، مبرزا الحب المتبادل بين الشعبين. وبنفس القيمة، يمكن اعتبار الساحة الملهمة، الملتقى الجماهيري المفتوح والركح المتحرك على الدوام، الذي يتحول في ساعات متواصلة من التنشيط والترفيه وإبراز مختلف المهارات الفنية والحكائية، بوصلة للأبعاد والدوافع السوسيوثقافية والاجتماعية المندمجة،  وذلك من أجل الرفع من فعاليتها ومردوديتها ككيان عضوي، والتي لا تفصله عن باقي التفاصيل التاريخية والفكرية، سوى الضرورات التي تفرضها تفكيكيات الفيلسوف وآليات اشتغال المؤرخ وإصحاحات الأديب وعالم الاجتماع …إلخ.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button