
ـ في رياض المقال الأخير لصبحي حديدي ” بلير في إهاب قائمقام غزّة” المنشور في القدس العربي ليوم الأحد 05/ 10 / 2025 ـ
(كش بريس/ التحرير)ـ يبدو المشهد كأنّه نكتة سوداء من زمنٍ فقد حسّه الأخلاقي: توني بلير، أحد مهندسي غزو العراق، يُعيَّن اليوم “قائمقاماً لقطاع غزّة”. المفارقة الموجعة علّقت عليها سيدة بريطانية بعبارة تختصر الفلسفة كلها: «إبليس مشغول بمهامّ أخرى، فلم يجدوا أفضل من بلير ليحلّ محلّه!»، وكأنها أرادت أن تقول إنّ الشيطان لم يعد رمزاً للشرّ بل صار وظيفة سياسية تُدار من مكاتب الحكومات والمؤسسات الدولية.
يقرأ المفكر السوري صبحي حديدي هذه السخرية الفادحة بوصفها صورة مكثّفة لانحدار القيم في السياسة الحديثة، حيث يغدو المجرمُ رسولَ سلام، والغازي مصلحاً، والمُستعمِر داعيةً للحوار بين الأديان. فبلير الذي غطّى حروب الغرب بخطاب “الحرية والديمقراطية”، يعود اليوم ليحكم باسم “الإيمان”، مؤسِّساً لمؤسسته الشهيرة التي جمعت الملايين تحت شعار التقريب بين الأديان، فيما هي تُعيد إنتاج لاهوتٍ استعماريٍّ جديد يشرعن الصراع ويغذّي الانقسام.
ولعلّ الطرافة المرة أن بلير، استعداداً لمنصبه الجديد في غزّة، أعاد إحياء نظرية صموئيل هنتنغتون حول “صدام الحضارات”، بعد أن دُحرت وأُفرغت من مضمونها. فها هو، كما يصفه حديدي، “يدخل أسواق الأفكار القديمة” كمن ينبش في رماد التاريخ ليبيع الوهم من جديد، مكرّساً فكرة أنّ “الخلاف الديني لا السياسي” هو محرّك الصراعات في القرن الحالي. وهكذا تتحوّل المأساة السورية، في قراءته، من ثورة على الاستبداد إلى نزاع بين طوائف وأقليات، لتُمحى البُعد الإنساني والسياسي للحرية لصالح سردية ثقافية مفخخة تخدم مصالح القوى الكبرى.
يذكّرنا حديدي بأنّ بلير لم يكن يوماً صوت ضميرٍ سياسي، بل رمزاً لانفصال الأخلاق عن السلطة. فحين سُئل أمام لجنة “شيلكوت” عن مبررات غزو العراق، أجاب بأنّ عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل “تفصيلٌ فنّيٌّ لا يغيّر جوهر الصواب الأخلاقي للغزو”. هذا المنطق ذاته هو ما يمنحه اليوم شرعية “القائمقام” و”الوسيط”، في زمنٍ صار فيه الاستبداد يغتسل في ماء الروحانيات الزائفة.
من هنا، يرى حديدي أن قصة بلير ليست حدثاً معزولاً، بل مرآة للحقبة النيوليبرالية الروحية التي تحوّل القيم إلى علامات تجارية، والإيمان إلى مشروع استثماري، والإنسان إلى مادةٍ لإدارة الصراع. فـ”مؤسسة توني بلير للإيمان” التي تجمع التبرعات بالملايين وتمنح رواتبها بالأرقام الفلكية، هي الوجه الجديد لـ”إمبريالية الأخلاق”: تغلف السيطرة بخطاب التسامح، وتخفي أطماعها وراء بلاغة “التقريب بين الأديان”.
إنّ بلير الذي ساهم في تمزيق العراق وتغذية الفوضى في الشرق الأوسط، لا يعود إلى غزّة بوصفه رجل سلام، بل كـ”قناع جديد للاستعمار القديم”؛ قناعٍ يزخرف العنف بشعارات الإنسانية ويغسل الدم ببلاغة الإيمان. وفي مفارقة مرة أخرى، يجني الرجل ملايين الجنيهات من البنوك والشركات ومحاضرات الأخلاق، ليبرهن أن المنشار الاستعماري ما يزال يعمل… جيئةً وذهاباً.
في خاتمة المقال، يترك حديدي قارئه أمام سؤالٍ فلسفيٍّ مرير:
هل ما زال الشرّ يحتاج إلى وجهٍ قبيح ليُعرَف؟ أم أنّه بات يرتدي بدلاتٍ أنيقة، ويُعيَّن بمرسومٍ دوليٍّ، ويُحتفى به كمنقذٍ ومؤمن؟
ربما كانت السيدة البريطانية محقّة: إبليس حقاً مشغول، لأنه ترك الأرض لأتباعه من “المبشّرين الجدد” الذين يُديرون الخراب باسم الخلاص.