‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د سعيد يقطين: طوفان الأقصى.. يا قدس!

ظلت فلسطين منذ الاستيطان الصهيوني في عيون الشعراء، وآذان الخطباء، وحس الشعوب العربية الإسلامية ووجدانها. اختزلت فلسطين في القدس مهد الديانات وأرض العلماء على مرّ العصور. فكانت العنوان على مجد أثيل، وواقع أليم منذ دخل الاستعمار إلى المنطقة، ولم يخرج منها إلا بعد أن دق إسفين الاستيطان في مرابعها فصارت شرقية وغربية، وها هي كلها الآن مستباحة للمستوطنين، ولا ترى الصهيونية بديلا عن كونها لا تقبل التجزئة، ولا مكان لأي تفاوض لحل الدولتين.
صارت القدس «زهرة المدائن» منذ أن صدحت بها فيروز بعد الهزيمة (1967) أيقونة الأغنيات والقصائد، وتلتها قصيدة نزار قباني «بكيت حتى انتهت الدموع» (1968) التي غنتها لطيفة التونسية. وكانت القصيدتان تصريحا بمأساة، وتلويحا بحلم مختلف. نقرأ الأمل الكبير في زهرة المدائن التي تنتهي بـ»البيت لنا والقدس لنا/ وبأيدينا سنعيد بهاء القدس/ بأيدينا للقدس سلام آت/ آت للقدس سلام آت». أما قباني فيكتب: «يا قدس.. يا مدينتي/ يا قدس.. يا حبيبتي/ غدا، غدا سيزهر الليمون/ وتفرح السنابل الخضراء والزيتون/ وتضحك العيون».
عارض فيصل بليبل (ت 1984) ابن مدينة الرقة بيت قصيدة زهرة المدائن: «الآن الآن وليس غداً/ أجراس العودة فلتقرع»، بقوله: مِن أينَ العـودة فـيروزٌ/ والعـودة ُ تحتاجُ لمدفع /عـفواً فـيروزُ ومعـذرةً/ أجراسُ العَـودة لن تـُقـرع/ خازوقٌ دُقَّ بأسـفـلنا/ من شَرَم الشيخ إلى سَعسَع». نسبت هذه الأبيات إلى نزار قباني خطأ، وكان أن اتخذها بعض الشعراء مع طوفان الأقصى نصا نقيضا، وتناولها آخرون موضوعا للزراية بواقع ينضح بالتواطؤ والتآمر والخذلان، وظلت النسبة إلى نزار وليس إلى فيصل.
أثار طوفان الأقصى المشاعر والأحاسيس، رغم كل محاولات التربية على الصمت، واستقطبت وسائل التواصل الاجتماعي الأصوات التي استفزها التواطؤ الدولي، فحرضت زهرة المدائن ومعارضة فيصل بليبل لها فكتب تميم البرغوثي رداً على فيرز ونزار: «عـفواً فيروزٌ ونزارٌ/ فالحالُ الآنَ هو الأفظع /إنْ كانَ زمانكما بَشِـعٌ / فزمانُ زعامتنا أبشَع / أوغادٌ تلهـو بأمَّـتِـنا/ وبلحم الأطفالِ الرّضـَّع / والمَوقِعُ يحتاجُ لشعـْب/ والشعـبُ يحتاجُ لمَدفع/ والشعبُ الأعزلُ مِسكينٌ/ مِن أينَ سيأتيكَ بمَدفعْ؟». وتوالت الردود الشعرية لشعراء معروفين ومجهولين في وسائل التواصل الاجتماعي، هذه أبرزها، وأكثرها تداولا.

جاء ما كتبه الشاعر العراقي في الرد على قصيدتي نزار قباني وتميم البرغوثي بقوله: «عفوا فيروز ونزار/ عفوا لمقامكما الأرفع/ عفوا تميم البرغوثي/ إن كنت سأقول الأفظع/ لا الآن وليس غدا/ أجراس تاريخنا لن تقرع/ بغداد لحقت بالقدس/ والكل على مرأى ومسمع/ والشعب العربي الذليل/ ما عاد يبحث عن مدفع/ يبحث عن دولار يدخل/ به ملهى العروبة أسرع». وعلى الوترة نفسها نقر الشاعر السوداني قيس عبد الرحمن عمر بقوله: «عفوا لأدباء أمتنا/ فالحال تدهور للأبشع/ فالثورة ما عادت تكفي/ فالسفلة منها تستنفع/ والغيرة ما عادت تجذبنا / فالنخوة قد ماتت في المنبع/ لا شيء عاد ليربطنا/ لا دين بات يوحدنا لا عرق عاد فيترفع/عفواً أدباء زماني/ فلا قلم قد بات يوحد أمتنا فالحال الآن هو الابشع».
شتان بين النكسة التي تولد منها الأمل في التغيير مستقبلا، حين كانت القضية الفلسطينية عربية تستقطب الوجدان العربي (فيروز وقباني). لكن بعد مرور حوالي عقدين من الزمان بدأ يلوح أن العودة تتطلب شروطا غير متوفرة، وفي غيابها سيواصل الاحتلال سيطرته على مناطق تتعدى فلسطين (بليبل)، وأن أجراس العودة لن تقرع. وجاء طوفان الأقصى لدى شعراء من فلسطين والعراق والسودان، لا ليكون على لسانهم تأكيدا على أن بإمكان الجرس أن يقرع، وأن العودة باتت ممهدة بالصمود الأسطوري، وبالسلاح، فكان لما لحق من تدمير وتجويع وتهجير، أثره في أقصى درجات التشاؤم، بذريعة أن الواقع المأساوي الذي يعرفه الشعب العربي، والتحولات السلبية التي حصلت عربيا، لن تؤدي إلا إلى المزيد من استبعاد أي تفكير في الرجوع، أو إنهاء المأساة ـ الملهاة. فكان الصوت النشاز من الشاعرة السودانية سناء عبد العظيم التي سارت على النمط نفسه في ذكر أسماء الشعراء، وردت على كل منهم بنبرة مختلفة، ومفتوحة على المستقبل: « فيروز انتظري عودتنا/ كادت أجراسك أن تقرع/ قباني صبرا قباني/ المدفع يحتاج لمصنع/ والمصنع أوشك أن يبنى/ والخير بأمتنا ينبع/ عفوا لتميم البرغوثي/ فالشعب محال أن يقنع/ مهلا لعراقي شاعرنا/ أجراس التاريخ ستقرع/ وتعود القدس وبغداد/ ونصلي في الأقصى ونركع/ لن نرضى أبدا بالذل/ وقريبا للشام سنرجع».
بين أقسى درجات الألم المؤدي إلى التشاؤم، عند الشعراء، وأقصى درجات الأمل والتفاؤل عند الشاعرة، نجد التعليقات الكثيرة التي تواترت على هذه المادة في مختلف منصات التواصل، وقد حفزت التفاعل من لدن شعراء وقراء من كل الوطن العربي، إن حدث طوفان الأقصى جلل. وإن تعددَ الرؤى واختلافَها، تفاؤلا وتشاؤما، إدانةً لواقع كائن، أو حلما بواقع ممكن، دليلٌ على حس مشترك بدأ يتكون من جديد بعد أن ظل غائبا ومغيبا، حول القضية الفلسطينية خصوصا، والعربية عموما. فهل تداعيات طوفان الأقصى تؤشر إلى الحلم بالتغيير، أم تكريس الواقع؟ إن موعدهم الصبح، والكل مسؤول عما يجري، لكن المقاومة مستمرة.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button