
فتحت مذكرة قانونية، سُلّمت في هذا الشهر إلى 10 داوننغ ستريت، ملفا ثقيلا ظّلت بريطانيا تتملّص منه طيلة أكثر من قرن من الزمن، لكنه ظل حاضرا في ذاكرة الفلسطينيين والعرب والمسلمين وجميع مناصري حقوق الإنسان، مثلما هو حاضرٌ في وعيهم أيضا.
حملت المذكرة القانونية عنوان “بريطانيا مَدينةٌ لفلسطين” وطالبتها بالإيفاء بدينها والاعتراف بمسؤوليتها التاريخية عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، خلال فترة الانتداب البريطاني. كما طالبت المذكّرة الحكومة البريطانية بتقديم اعتذار رسمي وتعويض للشعب العربي الفلسطيني، عمّا لحقه من غبن، وأضرار لحقت به وتسببت في نكباته اللّاحقة.
وكنتُ، بمناسبة الذكرى التسعين لوعد بلفور، قد دعوت إلى اعتذار بريطاني رسمي، وأشرتُ إلى أن فرنسا والولايات المتحدة اللتين طالبتا تركيا بالاعتذار للأرمن، أما كان الأَولى بهما، وبشكل خاص بريطانيا المسؤولة المباشرة، الاعتذار إلى العرب والفلسطينيين عن وعد بلفور، خصوصا أن المأساة التي سببها ما تزال مستمرة ومتعاظمة، حيث نشهد منذ عامين حرب إبادة مفتوحة تعرضت لها غزة منذ نحو عامين، حيث ارتكبت دولة الاحتلال الإسرائيلي جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب مكتملة الأركان.
لقد ترتّب على ذلك الوعد البريطاني (2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917)، الذي أصدره آرثر بلفور وزير الخارجية آنذاك، إلحاق ضرر تاريخي بالشعب العربي الفلسطيني وتشريده ومصادرة حقوقه العادلة والمشروعة وغير القابلة للتصرف. وقد استندت الحركة الصهيونية عند تأسيس دولة إسرائيل إلى ذلك الوعد، الذي منحه “من لا يملك لمن لا يستحق” على حدّ تعبير الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهكذا نشأت في المنطقة بؤرة عدوان وتوتّر ومشروع حرب مستمرّة، حيث قامت إسرائيل باحتلال كامل فلسطين وأجزاء من البلدان العربية، وشكّلت عائقا أمام تقدّمها وتنميتها. المذكرة القانونية المؤلفة من 400 صفحة ارتكزت على الإرث الاستعماري البريطاني في فلسطين، وغطّت نحو 41 عاما من الهيمنة البريطانية (من عام 1917إلى عام 1948)، حيث قامت بريطانيا بدور “قوة الاحتلال” خلال فترة الانتداب.
والواقع فإن هذه الخطوة غير المسبوقة، لها أهمية كبيرة ومعنوية، وأن الحكومة البريطانية ستكون ملزمة بالردّ على ما جاء فيها من مطالب، ويمكن اللجوء إلى القضاء لمساءلتها عمّا قام به أسلافها من ارتكابات، وذلك في إطار ما يمكن أن نطلق عليه “العدالة التعويضية” أو “العدالة الانتقالية الدولية”، وهي وجه آخر للعدالة الانتقالية الوطنية. لم تكتفِ المذكرة بتقديم مطالعة قانونية لمساءلة الحكومة البريطانية فحسب، بل إن منيب المصري وهو رجل أعمال معروف (91 عاما) قدّم شهادة خاصة، حيث كان قد أصيب برصاصة أطلقها جنود بريطانيون عليه عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وقال المصري: كنتُ أنتظر هذه اللحظة طيلة 83 عاما. وخلال كل تلك السنوات كان يأمل في الطعن بوعد بلفور الذي سبّب المأساة الفلسطينية، وأضاف المصري: المأساة الفلسطينية من صنع بريطانيا وعليها الاعتذار وتحمّل مسؤولياتها بخطوه أولى نحو العدالة. لم يكن الفلسطينيون وحدهم هم من سلّم المذكرة القانونية إلى 10 داوننغ ستريت، بل ساهم عدد من اليهود معهم، من بينهم المؤرخ البريطاني آفي شلايم، الذي قال، إن ثمة أدلّة دامغة احتوتها المذكّرة، وعلى بريطانيا تحمّل مسؤولياتها التاريخية عن ضياع فلسطين، فقد كان وعد بلفور خطيئة مهّدت لجرائم لاحقة وصولا إلى حرب الإبادة في غزة. وقال بن إيمرسون المحامي الدولي المعروف والمقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، إن المذكرة استندت إلى تحليل شامل للأدلّة يثبت مسؤولية لندن عن معاناة شعب فلسطين، وإن بريطانيا مَدينة لفلسطين وعليها سداد ديونها التاريخية. الوعد الذي يتألف من 67 كلمة ليس سوى رسالة شخصية وجّهها وزير إلى مواطن بريطاني اللورد روتشيلد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبأحسن الأحوال هو مجرّد تصريح سياسي لا ينطوي على أي إلزام قانوني، لكنه شكّل محور المأساة الفلسطينية لاحقا، فقد استندت إليه الحركة الصهيونية، كبُعد حقوقي في إعلان تأسيس إسرائيل، إضافة إلى مؤتمر سان ريمو وقرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947، فضلا عن البعد الأيديولوجي التاريخي “الوعد الإلهي التوراتي” وفقا للميثولوجيا اليهودية التي تقول، إن “الرب يهوا” منح أرضا لنبيّه ابرام (إبراهام)، وهذه الأرض هي من النيل إلى الفرات، كما جاء في سفر التكوين، وكما يُروَّج حاليا من تصريحات على لسان القيادات الإسرائيلية، يضاف إلى ذلك أن الحركة الصهيونية تحالفت لتنفيذ هذا الوعد مع الإمبريالية العالمية البريطانية، والأمريكية لاحقا.
الجدير بالذكر أن مؤتمر ديربن لمناهضة العنصرية (جنوب افريقيا) عام 2001، طالب بالاعتذار عن أخطاء تاريخية ارتكبتها دول استعمارية، وقد استجابت بلجيكا لما سببته لشعوب الكونغو من قهر واسترقاق، كما استجابت فرنسا جزئيا بالاعتذار عن فترة استعمارها للجزائر التي دامت 132 عاما، علما بأن هذا المؤتمر الذي كان لي شرف حضوره، والمشاركة في أعماله التحضيرية أدان الممارسات الإسرائيلية العنصرية. وإذا كانت جنوب افريقيا قد حصلت على الاعتذار عن مذبحة شاربفيل التي حصلت في 21 آذار/مارس 1960، واعتبر العالم ذكراها يوما عالميا ضدّ التمييز العنصري، فلنا أن ندعو إلى اعتبار يوم 2 نوفمبر (ذكرى وعد بلفور) يوما عالميا لمناهضة الاستعمار الاستيطاني.
لقد أصاب المفكر إدوارد سعيد كبد الحقيقة حين قال، إن أكثر الأيام إيلاما وإظلاما في تاريخنا الفلسطيني والعربي، هو يوم وعد بلفور، ولتكن المطالبة بالاعتذار البريطاني والتعويض مدخلا جديدا للنضال الدبلوماسي والقانوني الدولي.