لحظة تفكير

 د محمد فخرالدين: أنثروبولوجيا المدينة أو الحق في المدينة

في حاجة المجالس المنتخبة إلى درس التراث

“إنّ السؤال الجوهريّ بالنسبة إلى أنثروبولوجيا المدينة التي يُدافع عنها الأنثروبولوجيّ الفرنسيّ المُعاصِر ميشيل أجيي Michel Agier، هو:

مَن يصوغ المدينة؟ أو بالأحرى: كيف تُصاغ المدينة؟

لهذا فإنّ أنثروبولوجيا المدينة اليوم هي أنثروبولوجيا صياغة – المدينة.

 وعلى هذا النحو، فإنّ أيّ حديث عن الحقّ في المدينة، هو بمثابة الحديث عن صياغة المدينة، بما هي تجسيد براغماتيّ وملموس لفكرة الحقّ في المدينة التي دعا إليها الفيلسوف الفرنسيّ هنري لوفيفر Henri Lefebvre، قبله منذ أكثر من أربعة عقود.

 إنّها أنثروبولوجيّة للمدينة، تعطي الأولويّة للمدينيّين المُهمَّشين، فاعلي الهوامش والحدود وخارج الأماكن، على المدينة المركزيّة أو فكرة المركزيّة في حدّ ذاتها التي تبلورت عليها فكرة ووجود المدينة الحديثة والمُعاصِرة، بغية تأسيسٍ فعليّ ومُمارَسة واقعيّة للحقّ في المدينة؛ الحقّ في عَيش وصياغة حياة مدينيّة وحضريّة.”[1]

لاشك أنها ستكون انثروبولوجيا مركبة ، انثروبولوجيا بديلة لتصور المدينة المعاصرة التي تستبعد إنسانية الإنسان وتعامله ككائن مستهلك ومبرمج ..

وأنثروبولوجيا نقدية ترى أن التربية الاجتماعية العالية والوعي بالتراث والثقافة مهمة أكثر من إنتاج مدن ذكية باردة وصماء، بعيدة عن الحس الإنساني المشترك، فحتى السوق بما يطغى عليها من بلادة الربح تحتاج إلى تربية المتسوق  وأرباب السوق وتثقيفهما حتى لا تكون السرقة شراء، أو الاستغلال والاحتكار بيعا  .

 عندما نشاهد بعض المظاهر اللاثقافية والتي لا يمكن أن تقبل في مدينة بالمعنى الحقيقي وتجعلها مجرد تجمع سكاني فقد فلسفة المدينة نجد أنفسنا بعيدين كل البعد عن مفهوم المدينة … ، سنأخذ  بعض المشاهد المقتطعة من الواقع التي قد تعطينا تشخيصا مبسطا عن واقع المدينة المقصودة ، كعدم اهتمام بنظافة بعض المرافق العامة ، ومنها عدم اهتمام  الفرد بنظافة الشارع  وصيانة الفضاءات العامة التي تخضع للتخريب من طرف المستفيد منها   ،  عدم احترام يكاد يكون شاملا من طرف السائقين  لممرات الراجلين، الكلاكسون الجماعي بمجرد ثانية من الوقوف المباشر بعد الضوء الأخضر، التسابق وعدم التسامح في الطريق، عدم احترام الصف عند قضاء بعض الشؤون .. زحف ثقافة البطن على مساحات التراث وعدم الاهتمام بمعالم المدينة .. تناسل حراس السيارات في كل مكان وتكاثر المتسولين ونابشي القمامة ..غياب مرافق النظافة في الشارع العام وقرب المآثر التاريخية ..

ـ طقوس العبور من المدينة القديمة إلى الحديثة

لا شك أن العبور لم يكن سهلا من المدينة القديمة إلى الحديثة، لقد تجاذب الإنسان الحنين الى الماضي والتطلع إلى المستقبل، لم يكن بيع الماضي سهلا والانتقال من المساكن التقليدية داخل المدينة العتيقة داخل الأسوار، إلى الشقق داخل العمارات الشاهقة دون إقناع  بكل الإغراءات الممكنة وبسبب إكراهات الاقتصاد والديموغرافيا، قبل اكتشاف الوهم، بعد إقبال الغير على اقتناء تلك المنازل التقليدية وتحويلها إلى منازل للإيواء ومشاريع فندقية .

كانت المدينة في الماضي تجمعها طقوس معينة توفر الأمن والسكينة والعيش المشترك، إنها فضاء محمي بأسوار وأبواب بها أنشطة منتظمة وتراتيب وهندسة حياة محددة تتحرك فيها أشخاصها بين العمل والمسجد والفران والحمام في إطار مؤسسة الحومة والأزقة الضيقة والزمن الدائري المتشابه  التي قلت فيه الجريمة وحوصر العنف بالعرف، قبل أن تتحول إلى فضاءات مكشوفة تتحطم فيها أكثر قوانين المدينة بمعناها التقليدي وتخضع لشراسة المال والأسواق الكبرى وقلة التضامن وبرودة الجوار، وتتغير فيها طقوس العبور بين المدينة القديمة والمدينة العصرية بشكل مفاجئ يقضي على مسافات كبيرة من المساحات الخضراء والأغراس المحيطة بالمدن لصالح البناء العشوائي أولا والذي تليه ثانيا تجزءات على امتداد البشر، الغرض منها الربح لا السكن بدون رؤية مدنية تتطلع للمستقبل، وتتنبأ بمتطلبات الأمن والتعليم والشغل، مما يزيد أعباء إضافية غلى المشتغين بهذه القطاعات  ..

إن هذا الانتقال كان دون فلسفة موحدة غير ما فرضه الواقع الاستعماري بداية في تقسيم المدينة إلى قديمة وعصرية.. وهو التحول الذي قزم المدينة القديمة لصالح الجديدة، وجعلها تتحول إلى مجرد فضاء فولكلوري وموضوعا للسياحة والفقر، وكاد أن يفقدها شعلة الحياة .. لقد قامت المدينة الجديدة بتضييق الخناق على القديمة وجعلتها على الهامش رغم أنها في كثير من الأحيان تجني من ثمارها و تعيش على رمزيتها ومقدراتها  .

حاجة المدينة إلى الانثروبولوجيا

فما حاجة المدينة المغربية إلى الانثروبولوجيا ، وما حاجة المجالس المنتخبة إلى المقاربة الانثروبولوجية، ربما يعود  السبب في  طرح السؤال إلى الحاجة إلى تحقيق  أهداف التنمية الحقيقية التي لا يمكن أن تكتمل في أي مدينة دون الأخذ بالاعتبار دور ثقافة الساكنة والتصور المستقبلي لمآلها في هذا النجاح ..

فالأهداف ينبغي أن تسطر بشكل مسبق وواضح ليقل هامش الخطأ في التدبير والتصميم ، والانفتاح على المستقبل الذي تطلب كل مرة التوسيع، واقتصاد الموارد في التعمير، فالمدينة تحتاج إلى تخطيط خمسين سنةعلى الأقل، مع تعبئة كل الاحتمالات والمستجدات المرتبطة بتزايد السكان وحاجاتهم وتوفر الموارد من عدمها   ..

 وبهذا الصدد يمكن أن تساهم الانثروبولوجيا في صياغة المدينة وتطورها وانفتاحها على المستقبل، وفي نظافتها وانتظامها واحترامها لقانون السير أو قانون التعمير وأي قانون آخر .. و وبعدها عن العنف والإجرام … ذلك بتشخيص الحاجيات المستقبلية وتحديد المتطلبات المستقبلية مع الاحتفاظ بمقدراتها التراثية والثقافية التي تتيح سبل التنمية الحقيقية   ..

وفي نقاش مع عدد من أهالي المدينة ومع سياح لاحظوا  تدهور أحوال المدينة بالنسبة لمدن أخرى أزدان حالها في السنين الأخيرة، وأن مدينة زاخرة بالتراث وقبلة للسياح لا تستحق هذا الوضع، وقد يكون ذلك انطباعا ذاتيا أو حقيقية، أو  ربطا غير مدروس لهذا التدهور بخروج الأجانب من هذا الحي أو ذاك ..

 فأين يكمن الخلل، وأليس من الضروري الانكباب على فهم مختلف المؤثرات على تطور المدينة وانحطاط الشعور بالمدنية، خاصة العوامل البشرية والسلوكية التي تؤثر على تصور المدينة، وعدم فهم المجالس المتعاقبة لأهمية التراث والثقافة والتربية الجماعية على فن العيش المشترك، وانعكاس ذلك المباشر والغير المباشر على مصير المدينة، التي نعتبرها كائنا هشا مشتركا يحتاج إلى الحماية بلملمة تراثه وثقافته المحلية لكي يمتلك اسما وهوية يكون قادرا على الصمود وفضاء مستمرا للعيش الكريم، ولم لا العودة إلى بناء أسوار تحيط بالمدينة وتضمن جماليتها و رونقها وتحافظ عليها من كل المظاهر السلبية التي تخترقها من كل جانب .. أبواب تغلق ليلا على السلبي وتفتح نهارا .. قد يكون ذلك قمة الذكاء بالنسبة لمدن تراثية مستقبلية ..

المنتخب وفهم ثقافة المدينة :

إن للقائمين  على شؤون المدن وخاصة المجالس المنتخبة دورا مهما في صياغة صورة المدينة داخليا وخارجيا و زرع الروح الحضارية فيها .. ولا شك أن للعامل الاقتصادي دورا لكنه ليس العامل الوحيد المؤثر بل حتى الموارد الاقتصادية للمدينة تتأثر بصورتها وتمثلها الثقافي والاجتماعي وطبيعة الساكنة، واعتماد المدينة على السياحة أو على الخدمات ، وتقلص المساحات الخضرء المحيطة بها والتي كانت تمدها بالثمار الرخيصة من خلال بساتينها و أغراسها، واهتمامها بمعالمها  يؤثر حتما على جاذبيتها …..

ومن تم ضرورة تكوين المنتخب في مجال التراث والثقافة والفنون والحياة وفن العيش، أليس عليه أن يدرك أهمية التراث بالنسبة للمدينة كما فهم ذلك الناس في كل البلدان شرقا وغربا وأدمجوه في سياق التنمية والحداثة ..

إن المدينة ليس تجمعا سكانيا يجمع عددا من السكان يقومون بأنشطة معينة، وليست سوق شغل مصغر ولا مراقد ومتاجر ومجموعة من الخدمات والضرائب أو أسواق، إنها فضاءات للعيش المشترك وتنمية روح المواطنة والعمل لصالح المجتمع، وهو ما لن يتم إذا لم يتم تقدير المشترك من الفضاءات العمومية والاهتمام بمعالم المدينة وتعزيز هويتها الثقافية، فلن نكون في النهاية إلا في تجمعات سكنية متفرقة في ربوع نفس المدينة  ..

إن المدينة صارت مهمومة بحالات العنف المتزايد، والفضاءات العامة المهملة والقوانين التي لا يمكن أن تحترم من طرف من لا يعرف مفهوم المدينة أو ممن يخرب المرفقات العامة ويسرق حتى حديد غطاءات قنوات الصرف، وممن لا يحترم المواطن ولا المواطنة، بل حتى الأمكنة التي كان يفخر بها الأهالي وتعزز شعورهم بالانتماء إلى المدينة هي إلى  تدهور ، أرصفة متسخة ومهترئة ودائمة الترميم، وغياب البعد الجمالي وإهمال معالم التراث ابتداء من الأسوار التاريخية التي تحتاج إلى صيانة وتنظيف، إلى باقي المنشات فكيف سنخلق الجذب للمدينة ونربطها بصورة مثالية ننشدها  ..

صحيح إن المدن ينبغي أن يكون لها تصميم خاص تقني واجتماعي وحتى صناعي وخدماتي، لكن ما يميز المدينة ليس استنساخها على نماذج عالمية وإنما الحفاظ على هويتها الأصيلة تكون مصدر حب المواطن لمدينته وفخره بها والاعتزاز بالانتماء إليها  …

تلك الهوية الأصلية هي التي  تخلق تميزها عن سواها، لأن الإنسان الزائر في نهاية الأمر لن يبحث عن الاسمنت ومظاهر البذخ التي تركها في بلاده، وإن استهوته صبغة المدينة وماكياجها فسيكون استهواء عابرا غير أصيل… لذلك إن الحفاظ على الطابع التراثي والهوياتي للمدينة هو العامل الأساسي للجذب والتميز الحقيقي، وفي ذلك يمكن التلاقي المتميز بين التراث وتطور التقنية البشرية في تناغم تام ..

ومن باب المنطق والاهتمام بالجهوية أن يكون منتخبو المدينة ومسؤولوها لهم دراية بتراثها فيتحفون في تعزيز هويتها  بكثير من الجهد والعطاء .. فالتكوين العلمي والتقني في هذا المجال لن يكون إلا مفيدا للمدينة ومثبتا لصورتها في محيطها القريب والبعيد عندما يترجم إلى معالم تراثية ملموسة ترونق المدينة كما في الماضي  ..

الحاجة إلى التربية المدنية والاجتماعية :

وتبقى التربية المدنية أساسية للعيش الحقيقي للمدينة ليس كتجمع سكاني فقط لا تجمع فيه بين الناس أية رابطة غير العثور على مأوى أو ملجأ أو مرقد قد يساعدهم على النوم الهنيئ دون مهدئات أعصاب … فمفهوم الانتماء إلى المدينة يبقى شعورا داخليا يشعر فيه الفرد بالاطمئنان والسكينة والتضامن وفرحة العيش المشترك، وقد يقول قائل وهل الذي يبحث عن سكن اقتصادي ينبغي أن نبحث له بالضرورة عن سكن تراثي خاصة مع محدودية الوعاء العقاري، وهل الذي يعشق الماكدوناد، يمكن يقبل أن نطعمه الرفيسة العميا؟. يبقى للوعي والتنشئة دور في المفاضلة .

نحن بكامل الوعي أن ذكر التراث في عالم معاصر يسود فيه الرأسمال والبحث عن الربح السريع أو ثقافة الاستهلاك ـ  التي اقتربت أن تصير بدورها تراثا ـ و تلعب فيه الدور الأبرز، لن يكون إلا تطبيلا في ماء عكر ، لقد اعتقد الكثيرون أن التراث  لا علاقة له بالمدينة، ولن نحتفل به من جهة الصواب بتسكين الصاد إلا مرة في السنة في شهر التراث، لقد مضى وانصرف عنه الزمان، آرو لينا المدن الذكية والإنسان الآلي والتحكم في آلات الحياة عبر تقنية التعرف الصوتي، حيث ينعدم الجهد والعمل من داخل المراقد، لكن لم ندرس انثروبولوجيا بعد في فورة الحماس والانبهار، تأثير هذا الذكاء المفترض على الحياة وعلى المدينة وعلى طبيعة الانسان، وكيف سيصير الإنسان في هذه المدن المسماة ذكية .. كائنا غبيا يستعمل كل الأدوات الذكية التي برمجها بنفسه لتأسره وتجهز عليه في النهاية ..

فما لمدينتنا والتراث نحن الذين رؤوسنا معلقة بفضاء التقنية التي لم نصنعها …الجواب بسيط إن كنتم رؤوسكم معلقة بالسماء فأرجلكم عالقة بتراب الأرض، وكل لذة وحنين لن تكون إلا بهذا الارتباط الأرضي وهذا الانتساب المدني، حتى إذا ذهب الإنسان إلى كوكب أخر …

المدينة والتراث :

يعتبر التراث مقوما من مقومات المدينة وعلامة على مدى تطورها، وتحضرها، و إشعاعها، وكل مسير لا يفقه في التراث سيكون تسييره سلبيا على تطور المدينة لأنه سيفقدها خصوصيتها ويضيع هويتها في البحث عن العرض عوض الجوه، والمساحيق عوض الجمال الطبيعي  …

فالمحافظة على تراث المدينة ليس ترفا وإنما هو حاجة من أجل تنمية المدينة وتطوير جذبها السياحي والثقافي، فمن تراثها تنطلق المدينة وإليه تنتهي وبه تعرف عبر التاريخ، وتبقى الأشكال الحضارية الأخرى مساحيق على وجه المدينة حتى لا تضيع في الاسمنت والبدونة مع التكنولوجيا المصاحبة  ..

وحال مدينة البهجة خير مثال، فما كان لها ان تنفتح على كل هذا الاسمنت، وعلى المشاريع الكبيرة التي لا تستفيد منها المدينة إلا لماما، والتي تعتبر تحطيما لعمق المدينة وجماليتها، وما كان لها أن تفرط في ساحتها وفي بهجتها  وفي كتبييها الذين كونوا مدرسة الساحة وفي الكثير من فرجتها الشعبية .. . فلقد عوضنا المساكن البسيطة بناطحات  السحاب وفتحنا الوعاء العقاري على بنايات لا تمت إلى المدينة بصلة فعمقنا ذلك الفصام ونقصنا من متخيل المدينة ، وانتقلنا من الانتماء إلى حومات مغلقة إلى الانفتاح على فضاءات إسمنتية ممتدة إلى ما لا نهاية، مراقذ في كل اتجاه ،  دون مقاربة أننثروبولوجية حيوية للمدينة  يمكن أن تضيئ حياتها من جديد ،وأعتقد أنه ربما الالتفاتة إلى المدينة  باعتبارها عاصمة للثقافة خطوة في هذا سبيل إنصاف المدينة. . واعتقد إذا أردنا تنمية لمدننا ان ننفتح على الوجه الحضاري للمدن ليس في استنساخ  الأشكال و إنما في الحفاظ على جمالية المدن و تميزها… من خلال إحياء تراثها و ثقافتها وتأكيد هويتها  .


[1]https://arabthought.org/ar/researchcenter/ofoqelectronic-article

‏مقالات ذات صلة

Back to top button