لحظة تفكير

د محمد التهامي الحراق: عبد الله العروي والمقاربة التاريخية للقرآن الكريم…

_1_

يدعونا الأستاذ عبد الله العروي في كتابه “السنة والإصلاح” إلى عدم الخوف من الأبحاث التاريخية والمقارناتية الخاصة بالقرآن الكريم، ويستحضر أجدادَنا الذين خاضوا النقد التاريخي للكتاب المقدس، وقارَنوا بين العهدين القديم والجديد والقرآن بلا خوف ولا وجل؛ يكتب: “…ثم مرت أعوام، وبينما أنا منكب على دراسة القرآن مجدَّدا إذ قررت التعرف على الكتابين الآخرين. فندمت على أني لم أفعل ذلك مرارا لا مرة واحدة. عكس ما يخشاه بعضنا ويتمناه غيرنا، لا ينتج عن المطالعة أدنى ضرر بل العكس هو الحاصل. يخرج القرآن من المقارنة أقوى تأثيرا وأكبر قيمة. هذا الفرق بين الوضعين، وضع القرآن ووضع التوراة والإنجيل، هو ما انتبه إليه متكلمون قبل سبينوزا والنقد التاريخي الحديث” (ص.78).

_2_

عدم الخوف هذا نفسه يؤكده بخصوص الأبحاث الحديثة في تاريخ القرآن الكريم، مستخلِصا أنه مهما كانت نتائج هذه الأبحاث فإن ذلك لن يؤثر على الوظائف الروحية والمنزلة الإيمانية للقرآن الكريم، يكتب: “…من الوارد جدا أن يعثر أحد الباحثين، في إثيوبيا أو آسيا الوسطى، على صفحات من الذكر سابقة على مصحف عثمان. ما المانع أن يتوصل متخصص في الخط القديم إلى قناعة، وبحجج دامغة، أن لهجة مكة كانت غير ما توهمناه إلى حد الآن؟ إذا حصل شيء من هذا ولم يكن بد من الرضوخ له، ستحدث صدمة، بل رجة، لا شك في ذلك. ثم ماذا؟ هل ينال هذا شيئا مما يشعر به المسلمون الواعون إذ يرتلون ما يرتلون؟ هل ينعدم ما يغشى الناطق بالعربية من خشوع كلما سمع جملة واحدة من الذكر؟” (ص.86_87).

وكأني بالعروي يميّز، ضمنا وبخلاف التاريخويين، بين منطق الحقيقة ومنطق المعنى، منطق التاريخ ومنطق الرسالة؛ بحيث يُستفاد من تحليله أن للزمن فعلَه في تجديد تأويل النص المقدس كما حصل مع اليهود والنصارى؛ حتى أن “لاشيء مما يُستشْنَع فيما يقرؤون ويواجَهون به يُؤثِّر فيهم”(ص.87)؛ وهو الأمر نفسه الذي حصل، حسب العروي، مع المسلمين قبل الهجمة الصليبية، ويحصل اليوم مع المسلمين، وخصوصا غير الناطقين بالعربية؛ فالنص، كما نرى ويستفاد من بين سطور كلام صاحب “السنة والإصلاح”، يُلبّي عطشا روحيا وظمأ أنطلوجيا للمعنى لا يستطيع غيرُه تلبيتَه؛ ومن ثم لا يمكن لنتائج الأبحاث التاريخية كيفما كانت أن تقف دون هذه الوظائف المخصوصة للرسالة المحمدية.

_3_

يكتب العروي بعد أن يُسَجِّل عدمَ تأثّر اليهود والنصارى بما يُستشنَع مما يقرؤون في وعن كتابهم المقدس، وبعد أن يقرر أن المسلمين المعاصرين يعيشون التجربة نفسها، فيقول:”وسيعرف التجربةَ نفسها مسلمو الغد. حتى لو تحقق كل ما يتطلع إليه النقاد العقلانيون الأكثر تطرفا، حتى لو أقاموا الدليلَ على أن “المصحف العثماني” لم يُؤلَّف إلا في تاريخ جد متأخر، حتى لو أثبتوا أن كلّ المفاهيم القرآنية آراميةَ الأصل، حتى لو لم يَنْجُ من هذا النقد الهدّام إلا سورةٌ واحدة، وهو ما يستبعدُه الجميعُ، حتى في هذه الحال لن يَسْفَهَ ما قلناه عن “الرؤيا الإبراهيمية” التي انكشفتْ لفتى عربي سكنَ مكة، وحَمَل اسما يؤدي معنى الحمد”(ص.87_88).

_4_

لا يقوم فتحي مسكيني، في بحثه الرصين حول “الفلسفة والقرآن” بتحييد البحث التاريخي عن التلقي الإيماني، بل يطعن في الهم التاريخي نفسه المحرِّك لهذا البحث، يقول: “الذين يبحثون في النص القرآني عن “قرآن أصلي” لنقل، بعبارة لولينغ، هم في الحقيقة يبحثون عن أصول يهودية، أو مسيحية، أو سريانية، متردمة في جسم القرآن. بهذا المعنى، هم يبحثون عن أنفسهم، وما يحركهم هو هاجس هووي، ولا علاقة لهذا الهم التاريخي بمصحف المسلمين. انتقلت الهالة الهووية المفقودة في المكونات العميقة للغربيين إلى تربة أخرى ظلت عصيّة أمامها، بحثا عن تطابق مع ذاتها السابقة، أو نواتها الحنينيّة”. والمسكيني إذ يكشف بعدا آخر من الأبعاد الخفية لهذه المقاربات التاريخية للقرآن الكريم، يؤكد ما يَرِد مضمرا في كلام أستاذنا العروي، حيث يلخص المسكيني روح المسألة في سؤال معنى القرآن الكريم، وهو ما لايكفي فيه الاشتغال الحصري بتاريخ المصحف، يقول: “إن رأينا، هنا، أنه لا يكفي أن نؤرّخ للمصحف حتى نفهم معنى القرآن. إن لبّ العلاقة الخطيرة جدا مع القرآن ليس فيلولوجيّا؛ ونشعر بأنه قد تم تضخيم مرعب وغير مفهوم في دور المشاكل النحوية، أو اللسانية، أو النسخيّة، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع كتاب مقدّس لا تزال الجماعة المؤمنة به على قيد الحياة. يبدو أن معنى المقدّس مشكل يتجاوز بكثير أيّ تقنية نصية، أو حتى سردية؛ إنه مشكل سياسي يتعلق بالحقيقة”. إنه كلام عميق يضيء ببهاء ما لم يقله العروي في “السنة والإصلاح” صراحة ويحتمله تحليله.

_5_

حاصل القول أن العروي وهو ينبهنا إلى ضرورة عدم الخوف من الأبحاث التاريخية والمقارناتية الخاصة بالقرآن الكريم، يشير إلى أن هذه الأبحاث على أهميتها لا يمكن أن تمس روح النص المقدس ووظائفه الإيمانية، وأن نتائجها مهما كانت، ورغم ما قد تحدثه من رجة، لا يمكن أن تؤثر في التلقي الإيماني للقرآن الكريم؛ لأن هذا الأخير يستجيب لأفق آخر في التلقي، هو أفق المعنى، ولذلك يتجدد دوما تأويل النص بما يحرره من صدمة تلك الأبحاث، ويجدد وظيفته في تغذية المعنى الإيماني. ذاك ما نستشفه ساريا في كلام أستاذنا العروي. وهو ما يعد في نظرنا نقدا للمقاربة التاريخية المتطرفة، مما يحتاج لمزيد دراسة واكتشاف.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button