لحظة تفكير

د محمد فخرالدين : أنثربولوجيا العالم الافتراضي

الداخل مفقود و الخارج مولود


                                                    أولا : إغراء العنكبوت ..

ثقافة افتراضية جديدة تبني الكائن و تهدمه في نفس الوقت ،  تفتح أمامه نوافذ العالم و تسجنه فيه ، صدق من وسمها بشبكة العنكبوت و لم يكن يدري أننا سنقع في أحابيلها بطعم  مغر ، و العنكبوت العالمية العملاقة تراودنا حتى ندخل بين خيوطها الدقيقة رويدا رويدا..المهم هو البداية و تتكفل الشبكة بالباقي .. وواحدا واحدا ،لا داعي للسرعة فهناك متسع للجميع ـ من الشيخ حتى الرضيع..

 علينا ان نسرع لأنها فرصة ثمينة  ، فالداخل اليها مولود و قد سبقنا الكثيرون، و هم الآن يستمتعون بمطرها و غيثها و  خصبها ، جنةـ وجزيرة مائية فردوسية  خضراء قابعة في المتخيل ـ حسب مرجعية انثربولوجيا  المتخيل للإفلات من خيوط الواقع الذي لا يرتفع.  

الشباب و الأطفال و الشيوخ النساء و الرجال ، و من لا زال يعتقد انه يقاوم خيوط  العنكبوت ، حتما سينشد إليها عما قريب ، و يجد نفسه في متاهات الشبكة و دروبها ، سيجد نفسه في دائرة الاستلاب عن ذاته قريبا بعد أن انصرف عنه الجميع إليها  ـ حتى العائلة والأقارب و العاملون معه و حتى مديره  في العمل ـ الى وسط الشبكة و غمارها ،  و بقي وحده ..

 ليجرب إذن الانغماس فيها بدوره  ..حتى يستعيد علاقاته من جديد و يكون متميزا ..و هنا يظهر كرم العنكبوت فهي تمدك بما تريد وتتحمل عنك المحهود، تقرب لك البعيد ،و تحتفظ لك بجميع الذكريات و حتى عناوين الأصدقاء و أرقام  هواتفهم المفقودة .. لاداعي  لكي تتذكرها ،  فقد أخذت على عهدتها ذلك حتى لا ننسى أنفسنا و نتذكر أيامنا الماضية  بإيقاعها الخاص ، فهي تذكرنا بالأحداث السابقة وذات الأهمية ،  تذكرنا بما كتبناه سابقا ، وتذكرنا بتواريخ ميلادنا ، كل ذلك مجانا  ..بل هي لا تنسى كل مرة أن تسألك حتى عن مشاعرك و رغباتك ، و لا تطيق ذرعا  بأي جواب ..فهي تعتمد التقرير البارد المادح و لا تصدر الأحكام السلبية أبدا ، مما يكسبها الود والطمأنينة ..

كانت العنكبوت العاقلة وديعة معنا فقد اطعمتنا  بجود  و عوضتنا بسخاء ،استجابت لجوعنا الفرجوي بشبه  ما عهدناه في  الماضي  من مواسم  و اثناء زيارة الاولياء الصالحين و ان بشكل مختلف ، و وفرت لنا كل ما نريد او نتعطش  له من فرجة شعبية و خاصة، فكل ما علينا  هو إعلان الإرادة بنقرات بسيطة ، و حتى بدونها فهي تعرف جيدا من نكون و ماذا نريد ، فتتجند لإرضاء جميع الأذواق  ،فالاقتراحات لا تنتهي و الوجبات المشهدية دسمة للغاية  ، و الفرجة في كل مكان ، و حسب الذوق و السن … و في كل مجال و في أي وقت ، فابق مع العنكبوت و لا تنم و الا سيفوتك  الكثير من الفرجة التي لا تنتهي و لا تعوض ، و قد لا تجدها ثانية إذا فاتتك  ، لا تترحم على أشرطة  التسجيل القديمة و لا كاسيتات الفيديو  و لا الصور القديمه  ، كل شيئ هنا موجود و بانتظارك ..

انها  الثقافة الافتراضية التي تمكن من استرجاع الماضي و التحليق في المستقبل ..لقد امكنت الناس من تبادل و تواصل آني و لحظي يجمع كل الازمنة في زمن واحد  ، كما مكنتهم من اعتراف جديد بوجودهم و تسويق جديد لصورهم ونتاجهم و حضورهم بمنحهم شهادة حياة جديدة ..

 و امام هذا الكرم الزائد و الاغراء المتواصل و اليومي ..لم يفكر احد ان العنكبوت  يمكن ان تمنع خدمتها المجانية عنهم متى شاءت ومتى أرادت ، انها تتعامل معهم الان  بمنطق السياحة ، و تعتبرهم سياحا يؤتثون فضاءاتها ،و رحالة  يبحثون عن العجيب والغريب..و يقدمونه لها ايضا ضمن ما تحتاجه من مواد للتسويق ..عنكبوت نهمة و تعلم النهم ..

 أو تتعامل معهم  بمنطق انهم تجار صغار يقتسمونها الربح ،  يمكن ان يبيعوا حتى صورهم و مراحل حياتهم و كل معارفهم و معرفتهم يمكن ان يتقاسموها لديها ، و الكل رابح بعدد ارقام الفرجة ، أما هي فتدخلهم الى أدغالها دون ان ترسم أمامهم تشويرات العودة ، هكذا يظلون عالقين في الشبكة لا ينتظرون الخلاص  وقد يرفضون العودة  ،أما منزلهم المألوف وواقعهم فقد نسوه الى حين ..

يمكن للعنكبوت  ان ترفع خيوطها في أي وقت تريد و تترك العالقين بها  في متاهة غريبة ،فقد الفوها لدرجة الإدمان اللحظي عليها أكثر من أي شيئ.. هم فيها في كل وقت وحين ـ في المقهى و في العمل و في البيوت و حتى في الشاطئ و في أحضان الطبيعة  ، و ربما أثناء السباحة بواسطة شبكة عنكبوتية  مقاومة للماء ..

ثانيا : عناية زائدة ..

كل هذا يقع و امنا العنكبوت تراقبنا بعناية و لطف ، و تضيف كل مرة خيطا جديدا من صلب اهتمامنا، كلما اراد احد منا الافلات  من الشبكة ،المخلوط بلعابها اللزج الشديد الإلصاق ، أعادته إليها بيسر ،و لسان حالها يقول كل شيئ هنا فلم تودون الانصراف ، ان واقعكم لا يمكنه ان يوفر لكم كل هذه المتعة و الفائدة فابقوا معنا دون ان تبرحوا أمكنتكم ، ليس هناك أحسن من  أجواء سجنكم المخملية  هاته ، هل هناك مهرجان او موسم تقليدي احسن فرجة من هذا الموسم الافتراضي ..حتى أن الموسم فيه تعب و غبار و تنقل و فوضى و حوادث سير، و السوق فيها اكتضاض  و ازدحام و ربما لصوص ..هنا نوفر لكم الفرجة و الأمن ، و السلع  ايضا دون مخاطرة بانفسكم ..كل شيء ياتي حتى بين ايديكم  ..ما عليكم إلا المكوث في أمكنتكم دون انتظار ..

  إنه نفس الجو السحري الذي عاشه الانسان القديم و هو يقف عاجزا امام الاساطير التي تشل الإرادة ،يعيشه اليوم  من جديد ، نفس الموقف الذي عاشه رفاق اودسيوس و هم يسمعون اغنيات حوريات  البحر السحرية الفاتنة و المهلكة في نفس الوقت .. فكيف لا يستسلمون للنداء الفاتن ..

 و رفاق السندباد في جزيرة الساحرة التي تشبه كثيرا كالبسو اليونانية  التي تريد ان تستبقي المسافرين المتعبين من الرحلة  لمتعتها الخاصة الى ما لا نهاية ، لذلك تظهر للوعي الفطن الذي نظر الى الشبكة من مكان خارجها انها  على  شكل هوة عميقة تقع فيها الذات العزلاء من الحس النقدي و النقد المزدوج  ..  هوة جاذبة  الداخل اليها مفقود و الخارج منها مولود ..

  قد استطاعت هذه الثقافة الافتراضية في عشرين سنة ان تجمع من المعلومات ما لم يستطع البشر جمعه في قرون عديدة من العيش على هذه الأرض، كما استطاعت أن تمنح و تروج معلومات هائلة و تنقلها لبني البشر، فحولت عقلية البشر إلى عقلية فرجوية عابرة لا تتذكر أي شيء.. وتحولت إلى ثقافة شاملة مهيمنة  لم تترك مجالا من الأنشطة سلبا أو إيجابا و الا تناولته ،جاذبة رضى العين و الاذن  معا ..

 لقد تناسلت شبكة العنكبوت و تمددت طولا و عرضا و سماء وأرضا ، و لم يعد من الممكن الاستغناء عنها في كل أعمال البشر و أبحاثهم و منتجاتهم و أدواتهم  و نصوصهم المكتوبة و المصورة ،و حتى نواياهم موجودة  هنا  و مرقمنة ، كل الذكاء البشري و الادمغة و غيرها تتواجد مجتمعة و متفرقة، و قد مهدت لها مفاتيح استدعائها في اقل من ثانية  في كل وقت ، اموال و اسواق و لغات و ثقافات و أجناس متعددة تلتقي و تتبادل كل شيئ امام أنظار امنا العنكبوت التي لا زالت وديعة لحد الآن  ،و لا تمنع احدا من فضائها المغري منذ الولوج  إلى خيوطها الأولى و نوافذها المتعددة  ..

ثالثا : ثقافة افتراضية آسرة ..

تتيح الثقافة الافتراضية  للإنسان  كل  شيء ، تجعله مدللا  بكرم زائد  ،  ترضي رغباته و تمكنه من الحصول على كل المعلومات التي يريد و يمكنه توظيفها ،لكنها تبعده  بطريقة مخفية عن نعمة العقل من خلال تسريع حركية الصورة و زخمها  ، و  تمنعه  في نهاية الامر و في  التحليل الأخير   من ان يكون انسانا  فهي تعطل التفكير و النقد بطريقتها الخاصة و المبطنة ، و تبشر بالافكار العامة و إحساس الجموع  من خلال حبها الشديد للتقنيات الاحصائية  فالمهم هو العدد و ليس الفرد .. نسبة المشاهدة و المشاركة و ليس نوعيتها ..

 انها تقربه قليلا من عيش الآلة و تبرمج وجوده و زمن عيشه ..فيتساءل حتى مع اهله و مع اصدقائه دون شعور  ..ما هو البرنامج اليوم  ،او يقول انا عندي برنامج ..

 لقد صار بدوره جزءا من برنامج شامل  معولم  ،الفرد فيه ليس فيه نقطة في بحر  ،و في نفس الوقت هو كل شيئ لانه يختزل الكل ،و هذا من اهم خاصيات الثقافة الافتراضية التي تغيب فيها المجتمعات و الهويات و تستأسد فيها هوية الأنا الفاقذ للهوية   ..

الثقافة الافتراضية اسرة مثل كالبسو في الاسطورة  تعترف بالفرد  و لا تعترف بالانسان أو المجتمع  ..او ما يسمى بالانسانية ..انها استمرار للبنيوية و ما بعدها التي أعلنت موت الانسان و صفاته الانسانية التي تميزه عن غيره من الكائنات  ..تلك الادمية التي لم ينلها الإنسان الا بعد عنت من التاريخ  و نصب في مواجهة الطبيعة و التي افرزت ثقافته  الاصلية  التي جعلت منه كائنا عاقلا ..

و من المرجح جدا ان الثقافة الجديدة  ستعيده الى همجيته الاولى  و تعمق انانيته ،و تشحد رغباته البدائية عندما كان وحده يواجه الظلام و الطبيعة و أناه و أحلامه و هواجسه و حتى أساطيره ..مالم يحدث تصويب ما لهذه الثقافة من داخلها على شكل ضبط ذاتي ، أو من خارجها باعتبارها أداة لا  شعورية  للهيمنة على العقل  ..

الإنسان الان وهو في افتراضيته المطبقة و هو يبحث عن وجوده الافتراضي ، بعد ان تعب من الحقيقة التي لم تعد تسعه أو تشبعه ـ  سيواجه  مستقبلا انانيته المفرطة وشاشاته المتعبة سيفقد ليله و نهاره  ،و هو يرى السنوات تمر بسرعة لم يعد قادرا على استيعابها ..

و لم يدرك مع هذه الثقافة إلا علاقات افتراضية ،أسرة افتراضية  ، و ابناء افتراضيين منعزلين عنه في عمق وجودهم و عزلتهم الافتراضية  ..مما قد يؤدي لا قدر الله  الى تغيرات فيزيولوجية في الاجيال المقبلة ، زعما الآن و ليس حقيقة  ، كتضخم في حجم  الدماغ  و ضعف في العضلات   ، اما التغيرات السلوكية العصبية  فحدث و لا حرج ..

و لا يمكن لاحد ان ينكر التأثير السيكولوجي للحياة الافتراضية على كل مناحي الحياة ،لقد صارت كل حياة الإنسان  افتراضا و مرت بسرعة لم يدرك معها حقيقة العيش  ،و اصبح كل همه ان يتيسر له الاتصال بالشبكة و التوفر على  الطاقة او   بطاريات تمكنه اطول مدة ممكنة من البقاء منخرطا في احابيلها لدرجة انه لا يتخيل ان يعيش لحظة خارجها دون ان يصيبه عصاب  ما ، الكل متصل و من لم يستطع ذلك يشعر بيتم بالغ القسوة و فطام سيئ ..

مع الثقافة الافتراضية ليست هناك ذاكرة، هناك نسيان مستمر و إدمان غير متحكم فيه على مواقع التواصل الاجتماعي و ابتعاد عن الحياة الواقعية ، و عد للجيمات و النقرات و الأصدقاء الافتراضيين الذين يتركون تعليقا،  او الذين يكتفون بالمشاهدة ..و العنكبوت غير بعيد تقوم بدورها بعد كل كبيرة و صغيرة …

و ربما تاتي المستعمل صحوة ما  فيحذف عددا من من ظنهم اصدقاءه …له الحق في 5000 صديق كما تقول العنكبوت ..اصدقاء لن يتجاوز عددهم واقعيا  مائة  شخص في احسن الاحوال مما يعني ان انواعا جديدة من التواصل تتاسس ،  على علاقات عابرة لحظية   لا يمكن ان تستقيم الا بشكل افتراضي ..

 تبنى الثقافة الافتراضية أساسا على انقاض الثقافة القديمة و التقاليد والعادات  ، و قد تتعايش معها مرحليا قبل ان تقوم باجتتاثها بطريقة واعية او لاواعية  من الاذهان  من اجل ارساء عادات و تقاليد جديدة و اساليب جديدة للعيش و التعايش ، يستفيد منها الإنسان و يكون ضحيتها أيضا ،  لكونها  تخلخل علاقته بنفسه و الآخر و علاقته بالزمن ..

وأول ما توسوس  به هذه الثقافة الجديدة  للفرد انه مستقل عن  غيره من الناس و المجتمع  ، وأن  إمكانات فعله و إبداعه لا حدود لها عند ما تكون أمامه اللوحة و الشاشة ،و هو منعزل عن غيره في غرفته ،متصل بالجميع  و في نفس الوقت مستقل عن ردود الفعل المباشرة ، ينظر و لا ينظر إليه ..  يتخيل نفسه  كابطال الاساطير الذين تحرروا من قيود المنطق  ، انه  كائن لا يحده  لا زمن و لامكان  و لا منطق  غير زمن و مكان العولمة و عالمها الشاسع المنفتح على وهم  الربح الشامل و المنافسة الحرة  …و لن يوقظه من حلمه الطويل الا أمران  انقطاع التواصل مع الشبكة او انحباس الطاقة ..

رابعا : الثقافة الافتراضية تصور جديد للانسان .

 الثقافة الافتراضية تخلق  تصورا  جديدا للفعل الاجتماعي و للتواصل بشكل عام ، تصور جديد للذات  مبني على  التشظي و الفصام  ، و كذلك امكانية  التقليد و المحاكاة للعوالم الاخرى  و صنع كيان افتراضي هلامي للشخص لا علاقة له بكيانه الحقيقي ، فكل شيئ يصنع هنا في نوع من الاشراط الوجودي الذي لا مفر منه ،  و الذي يصل إلى  درجة التلميح او التصريح في بعض المرات  الى  ان الذي لا وجود افتراضي له ليس له وجود حقيقي ..

 وقد تعدى ذلك الأمر  شؤون الأفراد و الاشخاص الذاتيين  إلى الهيئات و الأحزاب و الصحف و الإدارات  و الحكومات ..التي أصبحت مضطرة الى مواكبة هذا العالم الذي عززه وباء كورونا  من خلال التعليم عن بعد و الادارة عن بعد و مختلف التصرفات و الارتفاقات عن بعد ..، و لم لا تقديم خدمات افتراضية دائمة في مستقبل قريب  و الاستغناء عن كثير من المستخدمين و الوظائف ..

و من تم أصبح هذا الفضاء الافتراضي العجيب  مشغلا للمخيلة السياسية و الاقتصادية و الامنية من خلال  حل الاشكالات الجديدة المطروحة  بامكانية توجيهه و التحكم فيه في اتجاه معين ،  و هو الامر الذي يظهر مستحيلا لمشاعيته و شساعته و مشاغبته  و انفتاحه على كل الآراء و الأفكار و القناعات و التطلعات و النوايا مما يزيد من الصعوبات الضبطية الخاصة بهذا العالم الافتراضي الذي ينفع الكل باعتباره وسيلة و تقنية  و اعلامية و تواصلية ..و من تم الحاجة الى قوانين جديدة تميز الصالح فيه من الطالح  ..

  الثقافة الافتراضية  تهدد  كل منجزات الانسان السابقة و قيمه المتعارف عليها  ، فهي في نفس الوقت تعمل بنقيض ما هو قائم و متعارف عليه  باعتبار مضمونها و محتواها و امكانية انحرافها في كل لحظة و صعوبة توثيقها و أرشفتها لسيولتها العاتية مما يجعل حفظ كل هذه المعلومات و تحليلها  في مستقبل الأيام مهمة مستحيلة و لو تجندت لها كل البشرية ..   

  و يظهر مع هذه الثقافة الافتراضية  استعصاء  حصر اثارها    على القيم و على التربية و التعليم و التنشئة الاجتماعية و امور الاقتصاد و البيئة ، حقيقة أنها  تقدم خدمات علمية و تقنية و ادارية منقطعة النظير و تختزل الكثير من الجهد و التكلفة  ،لكن آفاقها  المستقبلية غير متحكم فيها  و يمكن ان تؤدي الى كوارث اجتماعية غير متوقعة ..

الانسان في الثقافة الافتراضية كائن استعراضي ..كائن مصور يبحث عن  وجوده الشخصي في تقديرات الآخرين الافتراضية ..لا قيمة له في ذاته و لكن من خلال الأخر و من عدد الرسائل الافتراضية التي  تصله على   شكل مديح او على شكل قلوب زرقاء او حمراء ..

 انه عالم  متناقض  يجمع بين الخير و الشر و المصلحة و المفسدة ،  و ككل شيء مزدوج الأداء ،فيه منافع و فيه أضرار جسيمة على المدى البعيد، فهو سيوصل  إلى نظرة جديدة لعالم البشر ووجودهم على الأرض و قد يغير نظراتهم و علاقاتهم و ذواتهم ،كما الأساطير القديمة التي غيرت مصائر البشر و نظرتهم إلى أنفسهم و إلى التاريخ وقادت أحلامهم الى العلم و الاختراع  …

 و اذا ما قلنا اننا وصلنا  مع هذه الشبكة العنكبوتية  الجديدة ..الى أسطورة الأساطير و تمامها  ، لن  نجانب كثيرا الصواب ،أي  وصلنا  إلى أسطورة  عقل بشري  غارق في بحر  التواصل كملتقى أسلاك  بصرية ،  تمرر عبره المعلومات بسرعة لا نظير لها ..

و كان من نتائج ذلك ان هذا العقل ، صار بدون ذاكرة ، هذه الذاكرة التي ضعفت في الآونة الأخيرة كل الضعف ،لم تبق إلا ذاكرة قصيرة المدى تمكنه من معالجة المعلومات و فهمها لحظة بلحظة لتحل محلها أخرى و هكذا ، صار العقل قابلا للخرف  و التلف في كل لحظة لكثرة المعلومات التي تمر عبره  في كل ثانية ، ذهن لا يستطيع ان يركز امام نص مكتوب ، او فيلم مطول ، و لا حتى اغنية متوسطة الطول  ، يعتمد على تكريس ثقافة العابر و المتحول .. يصعب عليه تناول الأفكار لكونه غارق في الصور ..

 ان هذه الثقافة الافتراضية لا تقبل في النهاية إلا طقوسها الخاصة ، طقوس الذاتية و الفردانية و الاستلاب و الربحية ، فلا فائدة من أي عمل اوسلوك يقوم به الانسان ليس من ورائه فائدة و ربح ، بل حتى تلك الجيمات العارضة كتعويض أو أجر عن التعليق المكتوب ،  لا تخلو من ربحية ، وحتى العواطف و المشاعر يمكن ان تباع في هذا العالم الجديد ،و النقرة و المشاركة  بدورها لا تخلو من فائدة  مادية  أو معنوية ..

الامر الذي يؤدي الى اختلاط القيم و الاخلاقيات  ،و يجعل التربية غير ذات معنى ، فكثير من الأخلاق  ـ عدا قيم السوق ـ توارت و ستتوارى لان وجودها الافتراضي غير ممكن ،  فلا مجال للكرم و الايثار و الشجاعة و الإخلاص و الوفاء الافتراضي …

خامسا ثقافة رابح رابح

 من خلال إرساء أخلاقيات و قيم جديدة هي امتداد لقيم السوق تماما  ، كل شيئ يمكن أن يكون ربحيا  في هذا العالم الافتراضي  ..و ذا  قيمة مادية فلا مجال لاضاعة الوقت في المشاعر و العواطف ، فالعنكبوت لها صفة تاجر عالمي و الشبكة في حد ذاتها سوق افتراضي كبير جدا يتم فيه بيع كل شيء حتى الافكار  و الوجوه ..

كل شيئ يمكن ان يعرض للبيع و يصير سلعة ، المهم ان يكون هناك زبناء لا يهم  عددهم ، فالسوق مفتوحة كاي سوق آخر للعرض و الطلب ، و الجميل في هذه السوق انها لا تخضع لاكراهات الزمان و المكان و شروط  الادخار، فلا خوف على السلع من الكساد أو الضياع ..انها غالبا ما تكون بعد الطلب و الترويج  المباشر بواسطة عروض العنكبوت  المغرية  ..

خدمة تباع بطريقة مباشرة..و لاي زبون يعلن رغبته من خلال طرق العرض الاكتروني  التي تعمل على   تصنيف المستعمل الى حاجاته و متطلباته ، و اعتماد خلق حاجيات جديدة كما في كل سوق من اسواق الاستهلاك ، فلوحات  و اشرطة الاشهار في كل مكانو في كل مشاهدة ..يختلط فيها الافتراضي بالحقيقي .

هناك  دائما الجديد و  التخفيضات في الثمن و السعر و توصيل الى باب المستعمل ، و في بعض الاحيان تقدم مصارف النقل مجانا  ، مع احترام رضى المستهلك عن المنتوج قبل الأداء ..

الكل رابح في عرف الثقافة الافتراضية و المشتري اكثر  …الكل رابح ..و أي مجهود يمكن ان يدر دخلا تقبله الشبكة ، لذلك يمكنها ان تصير في المستقبل اكبر مشغل في العالم ..و عقود العمل قد تصير كلها عقودا  افتراضية  ..

حتى اللعب يمكن ان يدر دخلا ما ، فلم يعد في عرف هذه الثقافة وسيلة للتسلية و الترفيه و لا مجال لإضاعة الوقت في غير الربح ..و  كذلك لا مجال للذهاب الى اماكن العمل و مواجهة مشكل المواصلات و غلاء الطاقة  ، يمكن للانسان ان يكسب المال دون ان ينتقل من مرقده الى مكان العمل و هو ما سيؤثر حتما على الفرد و حركته وساعته البيولوجية  و درجة فعله في واقعه  و في   المجتمع  ..

فليست هناك مواعد  مخصصة للنوم و لا فرق بين النهار و الليل ، و لا مجال للكلام الكثير  ، و لا مكان لحوار الا الحوار مع الذات ،و جل ما يظهر كحوارات على الشاشة هو مجرد مونولوغات تخاطب فيه الذوات نفسها ، و قد لا تهتم بما يقوله الاخر ،ما دامت يمكن  لها  ان تجمجم على أي شيئ حتى على تعليق  لم تقراه ، و يمكنها ايضا ان تتلصص بالفرجة متسترة عن الأنظار   ..

 من التحولات الممكنة يمكن للادارة مستقبلا ان تتعاقد مع موظفين يعملون من بيوتهم دون ان يكلفوها اعباء اضافية ..كل شيئ ممكن و منفتح على المستقبل و يمكن توظيفه في وجهة معينة ،و هكذا يمكن الادعاء  ان الشبكة أثرت  و ستؤثر على كل المجالات كما اثر ظهور الهاتف أو التلفزة  سابقا على مختلف مناحي الحياة ..

 و بامكان أي شخص ان يقيم مقاولة افتراضية يبيع فيها ما يريد بشرط ان يجد زبناء مفترضين  يتوصلون بالبضاعة المرجوة ، و يؤدون ما بذمتهم و ما يتعلق بالتزامهم الاكتروني و الرقمي ، و لهم حق رفض السلعة اذا لم تطابق المتفق عليه  بين البائع و المشتري في أعراف افتراضية جديدة   ..

 لا شك ان مفهوم الربحية العام المرافق لهذه الثقافة الافتراضية سيؤثر على القيم و الاخلاق الاجتماعية او ما تبقى منها  ..فالكل رابح  في هذه الثقافة بدرجة ما  ،ولا مجال لاحكام القيمة ،كالذي يقول ان الذي يساعد شخصا ما يساعد في الحقيقة نفسه ،  لانه ياخذ ايضا  شيئا بمقابل ما بدر منه ، هو هذا الشعور الجميل بالرضى..

فلا مجال من هذا المنظور ، للقيم و الاخلاق الذي طالما تغنى بها الانسان كالكرم و الايثار و العفة و الحب  ، لان الهدف الشخصي والربحي قائم في كل هذه السلوكات كالحصول على المدح و الثناء الشخصي  و المجد الاجتماعي ، و حتى و لو بقي المانح مستترا فان ذلك العطاء يوفر له رضى ثقافيا او دينيا او جزاء اخرويا  يكسبه من عمله الخيري او التطوعي  ..

سادسا ثقافة افتراضية : قيم جديدة

 لا شك ان كل ثقافة تنتج قيما خاصة بها لان البشر لا يستطيعون  ان يعيشوا  بدون قيم  تنظم وجودهم الاجتماعي ،هذا الوجود هو نفسه مجال دائم لصراع القديم و الجديد  ،و القيم الغارقة في المثالية مع القيم المادية  ،الانانية مع  الغيرية  ،الانسان الذي يعيش لنفسه  و الذي  يعيش من اجل الاخرين  ..

و لعل اقدم القيم التي واكبت حياة البشر الى الان هما قيمتا  الخير و الشر ،  و هي القيم التي حاولت ثقافة السوق تحييد ثنائيتهما بطريقة خاصة ، فقيمة الخير تتجلى في تحصيل المزيد من الارباح و الشر هو  خسارة  السوق ، لذلك فعلى الانسان في عرف هذه الثقافة  ان يجتهد في حياته لكسب المال و تراكم الثروة دون ان تهمه الوسيلة ، فالمال  هو العامل  الخير الذي يغير احوال المجتمع ..

  في الثقافة الافتراضية يستمر هذا المنطق الربحي ، و ينتج قيما جديدة فمن يتحصل على القدر الاكبر من المعلومات لا بد ان يربح المال ،و الحدود بين الخير و الشر ليت دائما واضحة ،فكل شيء افتراضي سواء الخير أو الشر حسب السياق ، فاخذ معلومة او نص  من الاخر و نسبتها للشخص لنفسه ليس مشكلا  ، و لا يمكن اعتباره سرقة لان هنا يتم اقتسام الكل ، و لا احد يملك شيئا  ، و عبثا تحاول القوانين  رصد الخروقات  ،فالملكية الفكرية لا يمكن التدليل عليها  بسهولة ، و القيم الجديدة تعتمد التنسيب التام   …

والجيمات أمر مربح ، و قد تتحول إلى موافقة على بيع أوشراء ، لذلك  هناك من يتردد   قبل وضع جيم لانه اصبح يرى فيها  قيمة مثل النقود تماما ، و هو اشراط عملت الشبكة على ارسائه و ترسيخه لدى المتصفحين  للفضاء الازرق الذي يشكل بالنسبة للكثيرين فضاء للحلم و للربح ، و بالنسبة للبعض و خاصة الشركات فهو  مجال لجمع المعلومات عن مستهلكين مفترضين او مؤشرات عن درجة الرضا عن منتوج معين ..

دخلنا فعلا مرحلة الافتراضية بامتياز ، فالقيم  اصبحت افتراضية و ليست ذات معنى كبير ..ابتعدنا عن الحقيقة و الواقع  ،و صارت الوسائط المختلفة بيننا و بين الواقع  اكثر حضورا ، حتى انها اصبحت تفرض علينا نفسها يوما بعد يوم ، و اصبح الذي ليس له موطئ قدم فيها يحس بالنقص ،  و قد ينعت بالتخلف و عدم مواكبة التطور و الحضارة و الوقت ..

سادسا : وجود افتراضي ـ  سعادة افتراضية

المهم في النهاية هو السعادة الافتراضية ،و إحساس الكائن بانه يمتلك العالم و لو لم يملك منه شيئا ، انه هنا و هو امام شاشته مساو لجميع البشر، ما دام يملك هاتفا و شبكة يصطاد بها ما يريد من حيوات هاربة ، باستطاعته ان يكون   أي احد يريد  ،ما دامت الشبكة تفتح له عوالم التقمص بالمطلق ،قد يجد فيها سمكة في جوفها خاتم سليمان و قد يجد بالمقابل سمكة من اسماك ابريل ، المهم هو سعيد الان بدخول كل هذه العولمه من مكانه البسيط و من منزله الغير العامر ،  و من نقطة وجوده  المنزاحة ، يدخل  من اللامكان الى الحلم  بالتواصل ، و المتعة التي  لاحدود لها إلا حد الخوف الذي ينزعج به أكثر من أي شيئ ،هو إعلامه بانقضاء التعبئة او إخباره بمشكل في الشحن ، او غير ذلك من المشاكل التقنية التي تغلق دونه باب السعادة الافتراضية ..

فعلا العالم افتراضي  له ماله و له ما عليه ، قد ياتي بسعادة افتراضية ،و ينقص من العلاقات الانسانية  المباشرة ،عالم يناسب التباعد و الحجر الذاتي و الانعزال ، و كل الفيروسات الاجتماعية و الصحية التي زرعتها الحضارة المعاصرة  في حياة البشر ..

عالم التباعد  يناسب صياغة عالم بأحلام فردانية مغال فيها ،و لن يكون المجتمع البشري و المدن في المستقبل الا تجمعات ضائعة  لكائنات متشظية تشتغل من اجل الربح و امتلاك اشياء الرفاه و تحقيق سعادة الاستهلاك ،  و سيستمر الاستثمار في انتاج هواتف ذكية منقطعة النظير تحل محل كل وسائل الفرجة الاخرى ، و قد يحتفل الإنسان بالحصول على هاتف يؤمن الاتصال أطول فترة ممكنة ، اكثر من احتفاله باي مناسبة شخصية و اجتماعية أخرى ..

إن الوجود  الحقيقي السعيد  الآن هو على الشبكة ، يتمثل في عدد الصور وعدد المعجبين والمعجبات  و الصفحات المتوفرة و الإعلانات المصاحبة ،انه وجود بديل عن الذات الحقيقية الذي  قد يصير اكثر حقيقية من الذات نفسها ..

و تصير أغلب العلاقات الاجتماعية  عبارة عن علاقات باشخاص افتراضيين او صاروا افتراضيين نتيجة غياب حضوري طويل ..تعرفهم و لا يعرفونك  ،أو يعرفونك و لا تعرفهم ،لا يهم  المهم هو اللقاء المفترض في انتظار ان يتحول الى حقيقة من لحم و دم ، هذا الانتظار  الذي يتحول الان  داخل الذات إلى أفكار و مشاعر و احاسيس اتجاه كائنات افتراضية ،و تتحكم في وجودها  قواعد افتراضية  ..

 تتدخل الثقافة الافتراضية في علاقاتك و صداقاتك .. و تتدخل حتى  في نواياك و ذكرياتك ، ما تحبه و ما تكرهه ، و كيف ستكون بعد عشر سنوات ، و تفاجؤك كل مرة بصور جمعتها  عنك حتى دون علمك ، و قد تكون نسيتها تماما .. هكذا يكون الكل إذن سعيدا و راضيا في عالم السعادة الافتراضية المطلقة لان هناك من يعتتي به و يهتم بتفاصيل حياته  ..

لقد دخلت معك هذه الثقافة الى حياتك الشخصية ، و اصبحت تعرف عنك اكثر ما تعرف عن نفسك و اصبحت تحتفظ بكل اسرارك  و حتى ما تريد ان تتخلص منه من ذكريات .. و من تم أكدت شموليتها و تحكمها في حياة الفرد و المجتمع ..

انها هنا عالمية شاملة ، جامعة مانعة ، تقدم كل التعاريف و الأخبار و الفضائح  ، تحاصر المستعمل  بذكرياته و طموحاته  ،ترتب اصدقاءه  و تعلن عدد اعداءه ، من يكرهه و من يحبه ، تعرف معجبيه و حساده  و مقلديه و من يقلدهم ، او يسرق منهم أفكارهم  ..كل شييء موجود في دماغ العنكبوت التي تدير شؤون شبكاتها الرءيسية و الفرعية بإتقان ..

بئر ليس له حدود من المعلومات التافهة و المهمة في نفس الان،  التي تعطي الدلالات و توزعها عن الإنسان في كل انحاء العالم من اجل حصار هذا الكائن  الملتبس الذي لا يعرف حتى نفسه، و الذي أصبح حاليا كائنا افتراضيا مجردا من اجتماعيته ، و عاريا في هذه الثقافة الافتراضية .. محدد الحاجات  و الاهواء و الذكريات .. لا شيئ يفلت لهذه الثقافة التي تكتب تاريخا جديدا للإنسان ..

 هي ترسم صورة  متخيلة له  ، من كل ما يكتب او يخط،   من كل سلوك يسلكه ، كسله  في الرد ، و تباطؤه في الاجابة ، و  تسكعه الواقعي و المتخيل  من مكان الى مكان و من فيديو الى فيديو ، و طبيعة و نوع فرجته  .. و من كل المعلومات و المعطيات  التي تتركها آثاره على رمال الشاشة و بحرها ،  و تعليقاته و حتى امتناعه  من التعليق ..

 و هكذا تصير الثقافة الافتراضية  شيكة عنكبوت حقيقية  ضخمة تأسر الإنسان الراغب في المعرفة و الوجود  الذي يتجاوز واقعه فيعلق مباشرة في نسيجها الضاري دون ان يستطيع الإفلات …

سابعا : ثقافة افتراضية ـ طقوس جديدة

تحتفل الثقافة الافتراضية بكل لحظات حياة  الإنسان بطريقتها الخاصة ، وتعلن طقوسها  التي لها علاقة ما بتلك الطقوس القديمة كطقوس العبور و طقوس التسمية و طقوس الترشيد..و ما كان يصاحبها من احتفالات و توقف للزمان و التاريخ ..

   تقدم  الشبكة للإنسان التبريكات في الأعياد ، و و تمكنه من تقديم التعزيات في لحظات الفقدان دون ان ا يتكلف حضور  الجنازة و مرافقة موكبها  ، و كأنها تقول ان هذه اللحظات طبيعية و لاداع للاهتمام بها اكثر من اللازم  ،فالانسان في عرف الثقافة الافتراضية مجرد آلة مبرمجة تكف حياتها عندما تغيب عن الوجود الافتراضي ..و تتوقف أكثر عندما يتعلق الأمر بطقوس التسمية و الانتماء ..

أن الذي ينخرط  في الثقافة الافتراضية عليه ان  يمتلك اسما جديدا ـ دون ان يذبح بمناسبة التسمية   في اليوم السابع  ـ  وامتلاكه الاسم و اللقب الذي يختاره لنفسه يدخل في طقوس التسمية ـ الذي عرفته مختلف الثقافات ـ  و الذي  يجعل الفرد  يشعر  بكونه يولد من جديد و يكتسب  هوية جديدة  ،و هي مرحلة ضرورية  للانتماء الى الشبكة و الخضوع لمراقبتها ، بالاضافة الى  اللغز المشفر ، بحيث يمكن اعتبار الشطر الاخير من الاسم ،عبارة عن علامة انتماء إلى نفس العائلة الافتراضية ، بعد ذلك يتلقى المستعمل  خطابا للترحيب به ضمن طائفته االجديدة ،و يتم إعلان نجاحه  في الانتماء  ، قد  يطلب منه في انتظار ذلك الصبر بأدب   .

 و بعد ان  يقبل الشروط التي تحوله الى عضو في الشبكة ،و يتم التحقق من كونه بشرا و ليس آلة ،و هذا ما يشبه في الطقوس القديمة طقوس الترشيد les rites d initiations   التي  كان يخضع له الأطفال في المجتمعات التقليدية   للمرور الى مرحلة  التاهيل و عضوية المجتمع ، و كانت تتشدد كثيرا قي طقوس العبور تلك ..

إن  التساهل في  طقوس الانتماء و اختيار الاسم ،  بالنسبة للشبكة  يجسد  هدفا من أهدافها و هو شموليتها و عالميتها ، و رغبتها قي ضم  اكبر عدد من الاعضاء في أنحاء العالم لا يهمها اللغة أو الجنس او السن أو العرق ..

ان الاسماء القديمة لا تعد كافية  على الشبكة ـ لا بد من نعت جديد و هوية جديدة ـ و مكان الاسماء القديمة  الوحيد هو جذور  كنانيش الحالة المدنية التي علاها الماضي .  و فقدت  القها مع تغير الورق و تطور وسائل الكتابة و انواع التوثيق الالكتروني  ..

ومن الطقوس الأخرى و التحولات  التي صاحبت  هذه الثقافة ، تحول العلاقة الحميمة من البشر الى الآلات ، حيث أصبح الاحتفاء بالأجهزة حسب الموضات و الانواع الجديدة أكثر من احتفاء  البشر بعضهم بالبعض  ..و من تمت صارت الثقافة الافتراضية آلية بامتياز..

 و بعد ان  تقزم الشخص و الانسان في هذه الثقافة،  ولم يعد رقما فقط  ، او مجرد اسم لا معنى له ، و انما صار صورة  متلاشية بين ملايين الصور ، و تمثلات بعدد الجيمات و المشاهدات التي يتحوزها من طرف مشاهدين مفترضين و غير مفترضين  ، و التي  لها نصيب في تقدير الذات لنفسها ووجودها الاجتماعي الحقيقي ، صار الافتراضي متحكما في الواقعي و بديلا عنه ..وقريبا جدا قد يصير كل شيء عرفناه و سنعرفه افتراضيا و عن بعد ….

‏مقالات ذات صلة

Back to top button