لحظة تفكير

د. محمد فخرالدين : في الحاجة إلى الأنثربولوجيا

تقديم

يحاول هذا المقال أن يتناول الحاجة إلى الانثربولوجيا في الثقافات  و المجتمعات القديمة و الجديدة  كاكتشاف للآخر و ثقافته في الأول ، ثم كاكتشاف لمظاهر  الحياة المتحولة  في المجتمعات الحديثة ، و كيف سيصير لها دور أساسي في الكشف عن مآل الإنسان في العالم و مآل ثقافته المستقبلية ، و لم لا التنبؤ بثقافة الإنسان في المستقبل ،أو ما سيبقى من إنسانيته التي حاول بناءها و هو يخرج من الهمجية إلى الحضارة، مما يطرح معه سؤال فلسفيا ووجوديا عميقا ، هل مع طغيان الآلة و هيمنة  التقنية و استبداد الرقمنة و العوالم الافتراضية يمكن أن يبقى العالم محافظا على إنسانيته ، أو سيطور كينونة انسانية أخرى ، أحسن هذه المرة ، إنسانية  تبنى على الآنا المستقلة بنفسها  التي لا تخضع لاي ضغوط ، و التي تعيش حريتها كآلة مبرمجة من لحظة الولادة الى لحظة الموت في مدن ذكية تشبهها  ،  هذه بعض من  انثربولوجيا العصور المقبلة ،ماذا سيبقى من العلاقات بين الإنسان و غيره ، كيف ستصير القرابة ، و الأدوار بين الرجل المرأة ، و الزواج و الأسرة ، و المدينة و البادية ،  و المواطن و الإدارة ، كيف سينظر الفرد  إلى أنشطته الاجتماعية ، إلى عمله و وقت راحته  …إلى كلامه و لغته  و إلى طعامه ..كيف ستكون مدنه الحديثة ، ووسائل نقله ،و كيف سيؤثر السكن في مدن مراقد و الهجرة إلى مدن العمل كل يوم  على حياته و رؤيته للوجود …

الحاجة إلى علم الانسان :

يمكننا القول دون خطأ كبير أن   فكر الأخر  هو الذي أنتج  الانثروبولوجيا كعلم معترف به مثل عدد من العلوم الاجتماعية الذي ظهرت في القرن 19 ..و اتخذ في بداية أمره شكل معرفة الآخر أي المختلف عنا ثقافيا و اجتماعيا و ربما حتى فيزيولوجيا ..

و كحاجة لمعرفة  ثقافة الأخر  لم يكن هذا العلم  يهتم في بدايته بثقافة الانسان على الإطلاق ، لأنه كان يستثني الإنسان المتحضر ، و حين يناقش العالم الأمريكي كروبر هوية ومهمة الأنثروبولوجيا التي دار حولها جدل طويل آنذاك، ينتهي إلى القول بأن الهدف الأساسي للأنثروبولوجيا هو التمييز بين النماذج والأنماط الثقافية المختلفة، وليس الوصول إلى التجريدات العامة أو القوانين.

وهذا ما انتهى إليه أيضاً روبرت بوروفسكي الذي اعتقد أن علم الأنثروبولوجيا يتضمن في جوهره مقارنة وتحليلاً لأوجه الاختلاف والتماثل في الثقافات.

وأشار إلى هذا الرأي كاريزرس الذي حاول التشكيك فيه رغبة منه في إظهار الأنثروبولوجية الاجتماعية التي ينتهي ويتحيز إليها، على أنها الأكثر إقناعاً.

 فقد خصص الجزء الأكبر من كتابه “لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟” لقضية تفيد -حسب قوله- أن علم الأنثروبولوجيا لابد له أن يتجاوز الفكرة العامة عن مهمته التي تحددت بأنها ترجمة الثقافات، وذلك بأن يكون الهدف هو غرس أسلوب أكثر تاريخية، وخلق وعي أكثر حدة بالتحول في الحياة البشرية .[1]

لقد انطلقت الانثروبولوجيا في البداية بطريقة واعية او غير واعية ، من تقسيم العالم الى متحضرين و همج ، و ظهر التطوريون الذين يعتبرون الثقافات الاخرى  منحطة  لم تتطور بعد لدرجة الحضارة في  الغرب ، و الانتشاريون الذين انطلقوا من وجود مهد خاص للثقافة تنتشر منه  في الأفاق ، و الوظيفيون الذين تحدثوا عن وظيفة المكونات الثقافية ..و هم في الأغلب لم يستطيعوا التخلص من النزعة المركزية لنشوء هذا العلم ..

لقد سال لعاب الأخر الذات ـ الغرب ـ على ثروة الذات  ـ الاخر الشرق ، و سال لعاب الانثربولوجيين على غرائبية و عجائبية العالم الأخر البعيد عنهم حتى شكوا في كون السكان الاهليين بشرا ..

لقد كانوا ينظرون  اليهم من وجهة التمركز الاثني و نظرات التفوق التي لا زالت موجودة للأسف ، و ان الانثربولوجيا كما نعرفها الآن هي  نتاج غربي ارتبطت أكثر بظروف التوسع و استنزاف ثروات و طمس معالم حضارة الأخر و لغته من اجل لغة الاقوى و حضارته، و هو السلوك الذي يواكب التدافع الحضاري و الثقافي الذي لا زال مستمرا حتى الآن في نظرته للأخر، و خير مثال العلاقة بين البيض و السود في المجتمعات المتقدمة ، أو طبيعة النظر إلى الأقليات و المهاجرين و السجناء و النساء و ذوي الحاجات في مجتمعات أخرى ، لكن لا بد من الاعتراف أنه  لم يمنعها ذلك من تقديم خدمات للثقافات الإنسانية و هي تقوم بتوثيق و وصف ذاكرة الشعوب و ثقافتهم و طقوسهم …..

إن الانشطة في هذه المجتمعات حسب رؤيتهم كانت ضعيفة وتقليدية و المجتمع متخلف و تسوده القبيلة ،ووضعية المرأة مهينة و تسود الاعتقادات بالسحر و الدجل ، و هنا اشكال غريبة من السكن و الطعام ..هذه هي النظرة بشكل موجز عن الأخر،و هي في المجمل نظرة متمركزة  منها حكم الانثربولوجي على الشرق انطلاقا من ليالي الف ليلة و حكايات شهريار ..

  ان الاستكشاف و معرفة الأخر من أخلاق الشعوب منذ أن خلق الله الارض و من عليها،  و هي من شروط السياحة الأولى سواء كانت تلك الرحلات حقيقية و متخيلة ،و هناك  نصوص قديمة للرحلات شكلت أولى النصوص الاثنوغرافية  لتوصيف الشعوب الاخرى  ، و كما كان يقول السندباد  بعد كل رحلة من رحلاته السبع ، و هو المصاب بمرض السفر و الاستطلاع و معرفة أحوال  الإنسان  ..اشتاقت نفسي  للسفر الى بلاد الناس ..

الأنثربولوجيا تغير جلدها :

  حتما تغيرت الانثربولوجيا بتغير الانسان فلم تعد هذا العلم الحالم بالغريب و العجيب ، وأصبحت أكثر واقعية ، و أكثر موضوعية ،  و تعددت موضوعاتها مواكبة للإنسان..

سيتغير الكائن البشري بتغير عالمه ، و تغير كل تلك المعالم التي حملها عن حياته السعيدة على ظهر الأرض ، و هو يواجه  كل السيل من هذه المعلومات ،و الكوارث الجديدة التي أصبحت تقض مضجعه ، في الغذاء و الأمن و السكن و الهجرات و المدن ..و حتما ستتغير العلوم التي تهتم به من حيث الهدف و الطموح و الموضوعات  ..

سيصير هدف علم الانثربولوجيا ـ  كما أشار إلى ذلك ، كليفور غيتز ، في كتابه المؤسس للأنثربولوجيا التأويلية ،  “”هو توسيع فضاء الخطاب الإنساني ، و ليس هذا بالطبع الهدف الأخير فهناك أهداف اخرى منها التعليم و التسلية ، و تقديم المشورة العلمية و التقدم الأخلاقي ، و اكتشاف النظام الطبيعي في السلوك الإنساني “”    تأويل الثقافة  ص 101

و ينبغي أن يكون موضوع هذا العلم  بعد أن عاد إلى رشده و تاب  عن توظيفه توظيفا خارج العلم  ،كما يقول الباحثون، كل ما يهم الإنسان من بعيد أو قريب  ..

 لقد قامت الانثروبولوجيا  بنقد ممارستها السابقة، وقد  كان ليفي استراوس من أهم المناهضين لفكرة المركزية الاثنوغرافية ،و اعتبار أن الثقافة الغربية او غيرها متفوقة على غيرها ..و هو الأمر الذي أشار  إليه ابن خلدون في تطور الحضارات و اضمحلالها ..

و يمكن القول أن الانثربولوجيا نشأت مرتبطة بالميدان من خلال الوصف و تدوين المعطيات الميدانية سواء من خلال الملاحظة آو الملاحظة  المباشرة  ..

في  البدء  كانت الحاجة إلى معرفة الشعوب الأخرى، و التعرف على باقي الثقافات بشكل رسمي ابتداء  من الاستكشافات الجغرافية و الاستعمارية للمعمور، و التي أرست عند الغرب فكرة التفوق العرقي على مجموع الشعوب  التي لا زالت انعكاساتها حتى الآن لغويا و ثقافيا و اقتصاديا ..

بينما الآن تظهر الانثربولوجيا كحاجة لمعالجة مشاكل المجتمعات المعاصرة شرقا و غربا و شمالا و جنوبا ، من خلال تجديد  جلدها كلما لامست موضوعا راهنا لتكون قادرة على استيعابه ..

 انها الانثربولوجيا  التي عملت و حملت في البداية رسالة علمية و ايديولوجية من المجتمعات  المتحركة الى المجتمعات الجامدة ، التي لا تتحرك كما يتحرك الشمال الذي عرف الثورة الصناعية بعد الثورة التجارية و تراكم الرأسمال .. و بررت حق التدخل لحماية البدائيين في نظرها من أنفسهم ، و ضرورة تلقينهم درس الحضارة و العمران من خلال خلق نخبة تابعة ، لتقدم نفس الرؤية الانثربولوجية ..

مدارس كثيرة عرفتها الانثربولوجيا ،و قد تأسست بداية لمعرفة الشعوب المنقرضة أو السائرة إليه ، و صارت نهاية من أجل معرفة الذات الذي لم ترد يوما أن تنظر في مرآتها الخاصة ، و اكتفت بالنظر في مرايا الآخرين  ،سواء بنية الفرجة او بنية اعرف عدوك جيدا تعرف نقط ضعفه، و تتعاطى معه  جيدا و لأطول فترة ممكنة ليس فقط بالتدخل المباشر و إنما بطرق أكثر نعومة ..

قبل ان تتحول الانثربولوجيا من معرفة الأخر، و من أحكام مسبقة في بعض الأحيان ، إلى فهم الذات من خلال نقد ذاتها و نقد مركزيتها لتتعامل مع الأخر كما هو ، في نوع من الندم و التوبة عن ما فات ، فلكل ثقافة معنى بالنسبة لأصحابها و ليس هناك ثقافة أحسن من ثقافة ، و على الانثربولوجي أن يفهم ثقافة الغير  كما هي ..

و في هذا السياق تكلم الكثير من الانثربولوجيين عن مفهوم الغيرية و جعلوه مفهوما مركزيا  في هذا العلم ، فلا يمكن معرفة الأخر دون نقد الذات و المعرفة التي  تنتجها اتجاه الغير ، و تظل الانثربولوجيا علم الأخر او علم الذات الذي صار آخر ، أو علم الأنا الذي صار غيرا ..و حل اللغز في  هذا التعريف  يتجلى في كونها تجديد للنظرة في المشكلات الإنسانية المتغيرة ..لذلك تحدثنا من خلال التعبير المجازي عن ضرورة تغيير جلدها باستمرار لتواكب تغيرات الحياة البشرية المليئة بالمفاجآت السارة و الغير السارة .

بحيث لا بد من هذه المسافة الانثربولوجية ـ بين الانثربولوجيا و موضوعها ـ  للملاحظة و الفهم و التحليل ، لان الأخر ليس أنا ، و لكن هو الأنا الذي أحاول أن افهمه في سياق مختلف و في ثقافة مختلفة …لكن الأكيد أن الانثربولوجيا لا زالت حاجة مهمة لفهم الإنسان و تجويد حياته ، و تعليمه انه إنسان في المقام الأول بكل ما تعنيه الإنسانية من معنى  ..هذا الإنسان الذي زاد اغترابه و سيزيد في هذا العالم و هو يلج الغرف المحرمة  .. و  مجتمعاتنا بالأخص الآن هي في أمس الحاجة إلى الانثربولوجيا  من أجل توضيح المسار، و تنفيذ النماذج بشكل صحيح ..

, باحث في الانثروبولوجيا و في التراث الشعبي


[1]  لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟  الثقافة البشرية نشأتها وتنوعيها، مايكل كاريزرس، ترجمة: شوقي جلال، الكويت، المجلس الوطني للثقافة، 1998م،  ص281.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button