فنون وثقافة

د/علي الخامري: تداخل المسافات والأنساق وتكامل المعنى والمبنى داخل شعر السورية فرات إسبر (الحلقة الرابعة)

توطئة أولية :

الشاعرة فرات إسبر شاعرة معاصرة من بلاد الشام التي أعتبرها صلة وصل ما بين المشرق والمغرب ، وحاضنة لمدلولات تراثية وثقافية غنية بعبق التاريخ ، ولها بصمة على الحضارات المتعاقبة ، وبالرغم من أنها تستقر بعيدة عن وطنها ، وبالضبط في بيوزيلاندا إلا أنها ظلت تعمل كالفراشة تطوف مع الشعر في اتجاهات مختلفة ، تحلق في السماء ، وتغوص في أمواج الحياة ، وتتجول في أعماق التاريخ لترشف رشفات من ينابيع الفكر ، ودواخل النفس ، ومكونات الوجود المختلفة ، تحولها إلى أيقونات غاصة بالدلالات ، وتتخذ منها وسيلة للبوح بدفقات الإحساس ، وتأملات الذهن ، ومحتويات الموقف بحثا عن المفقود في الكون وفي الإنسان ، جامعة بذلك بين ذكريات الماضي الجميل ، وتوجعات الحاضر الكئيب ، وتترقب المستقبل في الأفق عبر أشكال تتفرق ما بين الإبهام والأمل .

شاعرتنا صدر لها لحد الآن خمس مجموعات شعرية هي :

الأولى صدرت عام 2004 بعنوان : ( مثل الماء لا يمكن كسرها ) .
الثانية صدرت عام 2006 بعنوان : ( خدعة الغامض ) .
الثالثة صدرت عام 2009 بعنوان : ( زهرة الجبال العارية ) .
الرابعة صدرت عام 2011 بعنوان : ( نزهة بين السماء والأرض ) .
الخامسة صدرت عام 2020 بعنوان : ( تحت شجرة بوذا ) .

يتبين لنا أن محطات الشاعرة فرات وهي تبحر مع الشعر كثيرة ومتوالدة بِتَتَالٍ مُحكَمٍ ، متقارب ومتباعد السنين ، يصعب على القارئ لَمُّ شتاته بيسر وبإحاطة كاملة وغير متأثرة بالتيه الفكري الإيجابي .

كل قصيدة وكل مقطع حاكته شاعرتنا ينتهي بلا نهاية محددة شافية وكافية ، بل إن كل نهاية كتابية ترسم في ذهنك الكثير من التصورات والتطورات الإبداعية المتلاحقة تماما كما توحي بذلك عناوين المجموعات المتقدمة ، وكما يستشف من الآليتين المتحكمتين في المسافات والأنساق ، ونقصد بهما : طبيعة الشاعرة الأنثوية ، وعوالمها الفسيحة فساحة الكون وتجلياته المتنوعة .

شعر الشاعرة فرات هو شعر يجمع ، ويُشرِك القراء في عملية الإبداع ، وهم وإن تعددوا وتنوعوا وتناسلوا مع الزمان فإن كل واحد منهم سيجد عالمه المنشود ، وقصيدته الممشوقة ، وتلك المواقف الجمالية التي تغري بالمتابعة والمصاحبة والاكتشاف .

شعرها مفتوح لا يضيق ، ولا ينضب ، وكيف ينضب من يستقي مواقفه من تقلبات الحياة الواسعة ، وألوانها ، وأشجارها ، ووقائعها المتسارعة ، وأفراحها ، وأحزانها ، وجميع مظاهرها……

شعرها مثل الزمان سائر ومتجدد وله أشكال ومعاني مع انبثاق لحظات الليل والنهار والإنسان منذ فجر الحياة وإلى ما لانهاية ، شعر بهذه الكثافة في المعنى ، وبهذا التشكيل المتداخل على مستوى البناء ، وبهذا السفر الطويل الدائم والعميق ، وبحركيته التي لا تعرف التوقف والسكون صعبٌ ومُغرِي ، وله طابع سحري على النفوس ، يدفعك إلى حياضه دفعا متواصلا ، ويحبب إليك القيام بعمل يخَلخِل بُناه الفكرية والنفسية والجمالية التي تترسب في دواخلك مع كل قراءة كمثل ورطتنا معه في فعل القراءة وهمومها ، راجين أن نتمتع ونستفيد ، ونسوق القارئ الكريم إلى هذا الينبوع المتدفق على سطح حياتنا الشعرية المعاصرة لنقارن ونقارب لعلنا نصل معه إلى معالم تمكننا من الإطلالة المفيدة والمحيطة في الآن نفسه بالرغم من قلة مما في يدنا منه .

قراءتي لشعر فرات ستقسم وكما جاء في العنوان إلى قسمين كبيرين : قسم أول يهتم بتتبع المعاني والمسافات عبر عوالم النفس ، ودروب الاغتراب ، ومآثر الجمال ، وقسم ثان يتتبع المباني والأنساق التي صاغتها شاعرتنا للمعاني المطروحة انطلاقا من خواص وميزات أساسية ، شكلت الوعاء الذي ساعد واحتضن ، وساهم في تكوين تلك المعاني وتأديتها ببراعة نسقية تتلخص في آليات التسلسل والتقابل والبناء ، والتلخيص ، والترميز ، وفي داخل كل عنوان هناك تشعبات وتجليات طارئة ومحكمة من جهة التشابك والتداخل ، والتفاعل بدرجات يستحيل معها استغناء المعنى عن المبنى ، والعكس كذلك منعدم ، ولا يستقيم في شعر شاعرتنا فرات .

مضمون الحلقة الرابعة :

2 – دراسة المبنى : لم تهمل الشاعرة مبنى القصائد ، وبطريقة محبوكة جدا ، وهذا يحسب لها ، فالتعانق المتفاعل والمتكامل قائم بين المعنى والمبنى ، ويستحيل أن تجد فيه كلمة زائدة عن المعنى ، أو معنى طافحا عن اللفظ والتركيب والتمثيل المستوعب للمعالم المرادة ، هكذا بنت لنا الشاعرة فرات معمارية قصائدها
بحبكة ، وبتداخل محكم حولت اللفظ إلى راقص متنقل بين المعاني بخفة وإيقاع ، وجعل المعنى متدفقا بيسر وسهولة متفردة على صعيد التتبع والإلمام والوضوح ، انصهرت معها عناصر الحمولة المختلفة حتى صارت عبارة عن كتلة واحدة وجامعة لشتات الفكر واللغة بلمسة فنية طاهرة ومتفاعلة ، وعلى قدر كبير من الفنية والإبداع .

وسأحاول تقديم بعض الأمثلة الموجزة لمن يريد أن يقف على ما وقفت عليه من أشكال بنائية ، اختصرتها في العناوين التالية :

2 – ا – التسلسل المحكم للأفكار والصور : هذه خاصية أولى من معالم بناء ما سميته بشعرية المسافات المتساوية الأنساق على مستوى المعمار ، وهنا سأقف بالقارئ عند قصيدة طويلة ، سمتها شاعرتنا باسم دال هو : ( ثمرة ناضجة ) وكذلك كانت حين تحولت إلى ملحمة متصاعدة المعنى والمبنى ، جنبا إلى جنب ، بشكل تتحكم فيه الرؤية البصرية المتمددة في الأفق كشجرة باسقة من الحياة ، يستظل بها الجميع ، ويلوذ بظلها كل المارين على الطريق ، الرحلة تبدأ مع امرأة متحركة ولكنها تجوب الفضاء بمفاهيم مفقودة تعود إلى الحياة والشجرة ، والأرض ، والسماء ، والبحر ، والحِبر والقلم ، والخريف والربيع والمطر……ثم ينتهي المطاف بالحب ، ولو لم تقل الشاعرة غير هذه القصيدة لكفتها في الدلالة على موهبتها ، وصفاء ذوقها ، ويقظة فكرها ، ولمسات فنيتها الناصعة ، تقول في مقطع منها :

أنا الطالعةُ من رَحِمِ الأرضِ
بدعائي أشقُّ السماء
في سطوعٍ أعلو
وفي عتمةٍ أغفو
منحتُ الحديقةَ خُضْرتَها
والأشجارَ
أولادي
وَرثوا أقوى عظامي
في تصاعدٍ خفيفٍ أقطعُ المسافةَ
متصالحةً مع نفسي
يتراءى لي
لكنّني كالضوءِ لا أفهمُ سِرَّ انكساري
أحتاجُ سفراً طويلاً كي أعبرَ المتاهةَ .

هي متاهة بقيت متاهة لم تستطع الشاعرة أن تلم بها ، ولا أن تساير وقع خطواتها ، وكثرة دروبها ، وشدة منعرجاتها ، ومفجآتها العديدة والمتنوعة ، ولهذا توقفت ، وتوفقت كثيرا حين رمزت إلى كل ذلك التخبط العبثي الجميل الذي يعيشه كل إنسان بعنوان : ( ثمرة ناضجة ) وهي جملة غير مكتملة ، وتحتاج إلى تقدير العامل الغائب لكي تستقيم ، وتضمن صفة الوجود ، بالإضافة إلى أنها ومع ذلك تبقى نكرة كمثل النكرات الأخرى التي جسدتها الشاعرة في ثنائية دالة ومتداخلة : ( المرأة والثمرة ) ولها قدرة فائقة على الاستدلال والرمز .

2 – ب – تلخيص المعنى : من مميزات الشاعرة فرات أنها كانت توفق إلى بعض الخلاصات التي تذهلك ، وتلصق بذهنك وكأنها حقيقة مطلقة لم تكتشف إلا في شعرها ، تصير مقنعة للقارئ ، وتتحول إلى حكمة متحركة وذائعة ، وهنا لا بد من استحضار المغازي الممكنة من وراء كل اكتشاف مبدع ، يتيح للقارئ المتمرس إضافات وتيقظات جديدة ، لم يكن ليعرفها لولا ما تجود به مثل هذه الوقفات الإبداعية الدقيقة جدا ، تقول شاعرتنا في استراحة عفوية وهي تخوض متاهات قصيدة : ( جمر الروح ) :

هو الزمان
ضيق
كخاتم الزواج .

مقطع صغير جادت به قريحة الشاعرة في لحظة بوح صافية ، بلغت فيها درجة الاشتعال الجامع لشتات المعنى ، والملخص لمفاهيم الحياة الوجودية عندما تصل إلى الذورة العالية من الالتحام والتعاضد ، مقام كبير لا يصل إليه إلا من كان مبدعا حقا وحقيقة ، ومن فاضت روحه ، وبرع قلمه ، وتوافقا معا على رسم جدارية الحياة والإنسان .

2 – ج – تقابل المشاهد : من مميزات الإبداع بصفة عامة أنه يستعمل خاصية التقابل للإيحاء بكثير من المضمرات ، أي أنه يشرك القارئ ، ويعتمد على حدسه في إدراك المراد ، وكلما كانت هذه الخاصية محبوكة ومتحكما فيها في حدود المعاني المستهدفة كلما أفلح المبدع ، ونجح في ضبط طبائعه الفنية المؤثرة ، والتقابل له معان ونماذج كثيرة ومختلفة ولكن ما يهمنا منه الآن هو تقابل المشاهد المبني على دلالات الألفاظ ، وإيحاءاتها المتنوعة ، تقول شاعرتنا :

مثل شجرةٍ ميتة
مثل موجةٍ تضرب الشاطئ
مثل غريبةٍ
لا أرى الطفولةَ
ولا ملامحَها
ولا أمراضَها
لا أتذكّر لقاحَ الجُدري
ولا السل
ولا الحصبةَ
ولا أيامَ الفِطام
َيائسةٌ مثل ثدي امرأة لم تعرفْ الرضاع
مثل أرملةٍ تنتظُر غبارَ الربيع .

هذا ال ( مثل ) الذي تكرر ، وهذا ( و ) الذي قام بعملية الربط ، وهذا ( لا ) الذي يدل على التجديد والتكثير كلها كلمات محورية ، تخفي وراءها كما هائلا من المشاهد المتقابلة ، لو أردنا أن نفصل فيها الكلام لخرجنا بصفحات طوال ، ولكنها عبقرية المبدع حين يصل إلى قمة الإحساس ، وعظمة الإبداع الفارقة بينه وبين كل كلام عادي مستخدم ولو كان فصيحا ، ومرتبا على مقاس لغوي صحيح ولكنه بفتقد للمسة المبدع لكي يصبح إبداعا يعتد به .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button