لحظة تفكير

ذ. عبد القادر العلمي : التوافقات الدولية وحقوق الإنسان، تطبيع العلاقات المغربية “الإسرائيلية” كنموذج

موضوع تطبيع علاقة المغرب بالكيان الصهيوني أثار وما زال يثير الكثير من الجدل خاصة في جانبه السياسي وانعكاساته على واقع ومستقبل منطقة جد حساسة من العالم  توجد بلادنا ضمن حيزها الجغرافي، ويبقى الجانب الحقوقي لهذا الموضوع في حاجة إلى الإضاءة المجردة من الدوافع والخلفيات ذات الطابع السياسي.

ومن المعلوم أن التوافقات الدولية بصفة عامة تتوخى عادة ضمان وحماية مصالح محددة قد تكون مشتركة ومتوازنة كما قد يختل فيها التوازن لفائدة الطرف أو الأطراف الأكثر قوة ونفوذا على الصعيد الدولي. وتتميز هذه التوافقات بطابع سياسي ولها أهداف سياسية تتوخاها الأطراف المعنية ويمكن ألا تأخذ بعين الاعتبار الجانب الحقوقي بشكل عام أو يتغاضي أحد الأطراف عما يرتكبه طرف آخر من انتهاكات لحقوق الإنسان قد تكون من الجسامة بمكان.

والمقاربة الحقوقية للآثار الإنسانية والاجتماعية التي يمكن أن تخلفها التوافقات الدولية بشكل عام والاتفاقية الثلاثية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب والكيان “الإسرائيلي” بشكل خاص، لابد أن تترك جانبا ما هو سياسي وما قد ينطوي عليه من محاباة أي طرف أو التغاضي عن إشكاليات تطرحها طبيعة طرف معين، وتركز على الجانب الحقوقي الذي هو جوهرها، ومن الضروري أن ترتكز المقاربة الحقوقية لهذا الموضوع في نظري على مبدأين أساسيين تقوم عليهما منظومة حقوق الإنسان، وهما:

 كونية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة

ومعنى الطابع الكوني لحقوق الإنسان أنها ليست شأنا محليا، ولا تتقيد بالحدود السياسية للدول، أو المناطق الجغرافية للعالم، لأنها لا تتغير في أصولها ومبادئها، ولا في أنواعها ومجالاتها، بتغير البلدان أو القارات، وإنما ترتبط بطبيعة الكائن البشري أينما وجد، بل إن الاعتداء على حقوق الإنسان في بلد ما، أو في مناطق معينة من العالم لا يقتصر تأثيره السلبي على استقرار واطمئنان ذلك البلد، أو تلك المنطقة فقط، وإنما يعكر صفاء الحياة البشرية في جهات أخرى من أنحاء المعمور، ويمكن أن يُشعل فتيل التوتر الذي قد يندلع في العالم أجمع، ولذلك فإن أي دولة تدعي احترامها لحقوق الإنسان أو أنها تعمل في هذا الاتجاه لا يليق بها ولا يحق لها أن تتغاضى عن الانتهاكات في أي مكان أو تحاول تبييض صورة أي جهة معروفة بممارساتها المنافية للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

 وحقوق الإنسان كل لا يتجزأ فلا يمكن الفصل بينها ولا مجال للانتقائية بين أصنافها، وما درج عليه الباحثون من تقسيمها إلى مجموعات تمثل ثلاثة أجيال، هو مجرد عمل أكاديمي لا يعني الفصل بين تلك المجموعات التي تبقى في مجملها وكليتها مترابطة ولا تقبل التجزئة ويعني ذلك أن كل كائن بشري من المفروض أن يتمتع بكل الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولا يمكن لأي سلطة، وطنية أو استعمارية أو دولية، أن تصادرها منه أو أن تخولها له بالتقسيط أو تحد منها خارج إطار المواثيق الدولية.

ومن المفروض أن تأخذ كل التوافقات الدولية بعين الاعتبار المواثيق الدولية لحقوق الإنسان بمفهومها الكوني ومضمونها الكلي وألا تتم أي اتفاقية خارج هذا النطاق أو على حساب الحقوق والحريات الأساسية لأي شعب من الشعوب أو بالتغاضي عن وضع يتنافى مع حقوق الإنسان. وبعض الدول العظمى، بقطع النظر عن النوايا والأهداف، تشترط من أجل عقد اتفاق شراكة أو تعاون أو تقديم مساعدة لدولة أخرى احترام حقوق الإنسان في الدول التي تتعامل معها.

وبالنسبة للاتفاقية الثلاثية الموقعة في نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب والكيان “الإسرائيلي” لا تخف أبعادها السياسية بالنسبة لمحركها والمحفز عليها (ترامب) الذي بذل الكثير من الجهد خلال ولايته من أجل فك العزلة عن “إسرائيل” في محيطها الجغرافي العربي وعمل على فتح الجسور العلنية بينها وبين عدد من الدول العربية التي لم تكن تتبادل معها أي تمثيل دبلوماسي.وانعدام العلاقة الدبلومسية بين المغرب والكيان” الإسرائيلي” كان منطقيا وله ما يبرره من الناحيتين السياسية والحقوقية لعدة اعتبارات منها على الخصوص:

1) أن المغرب يرأس لجنة القدس و”إسرائيل” تحتل الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس ضدا على قرارات الأمم المتحدة، وضدا على “الشرعية الدولية.

 2) قيام سلطات الاحتلال بهدم حي المغاربة في القدس على رؤوس ساكنيه من مغاربة فلسطين المحتلة في حرب سنة 1967.

3) ما يتعرض له المسجد الأقصى برمزيته الدينية والروحية لدى المغاربة.

4) صدور عشرات أو مئات القرارات عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن الوضع في القدس وبشأن المستوطنات في الأراضي المحتلة وفيما يخص الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وغير القابلة للتصرف والتي تواجهها “إسرائيل” دائما بعدم الانصياع وعدم الاكتراث والتحدي.

5) اعتماد الكيان “الإسرائيلي” لنظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) والتمييز العرقي بين الفلسطينيين والمستوطنين القادمين من شتى بلدان العالم لتعزيز الاحتلال في فلسطين.

6) الاعتداءات المتواصلة على الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وعلى امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما ترتكبه “إسرائيل” في هذا المجال من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وانتهاك القانون الدولي الإنساني بارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية .

ورغم أن الاحتلال مستمر وانتهاكات حقوق الإنسان متواصلة وأسلوب التحدي للقرارات الأممية لم يتغير لدى الكيان “الإسرائيلي” الذي لا يزيد إلا تعنتا وإمعانا في خرقه للمواثيق الدولية، تأتي الاتفاقية الثلاثية الموقعة في 22 دجنبر 2020 لتغير موقف المغرب الرسمي من هذا الكيان رأسا على عقب، وفي وقت سريع تتم عدة خطوات في تطبيع العلاقات معه على عدة مستويات يبدو أنه لن يكون آخرها هو اتفاق التعاون أو التنسيق العسكري الذي جرى بتزامن مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني !

ولعله من مكر الصدف أن يتم فتح الطريق من طرف (ترامب) نحو توقيع اتفاقية التطبيع المشار إليها في العاشر من دجنبر 2020 وهو اليوم الذي تخلد فيه شعوب العالم اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ليصبح إحياء هذا اليوم بالنسبة للمغرب الرسمي ليس المساهمة في العمل على إقرار واحترام حقوق الإنسان وطنيا ودوليا، وإنما يطبعه التغاضي عن الانتهاكات الخطيرة التي ترتكب بحق الفلسطينيين وبحرية العبادة في المسجد الأقصى.

وإن اتفاقية تطبيع المغرب لعلاقاته مع الكيان “الإسرائيلي”، رغم محاولة تمريرها تحت غطاء اعتراف أمريكا بمغربية الصحراء، لم تكن أمرا عاديا بالنسبة للمغاربة ولم تمر كما تمر الاتفاقيات التي يبرمها المغرب مع العديد من الدول في مجالات مختلفة، وإنما كانت اتفاقية التطبيع  صدمة بالنسبة لفئات واسعة، ليس فقط بسبب التعاطف الطبيعي للمغاربة مع عدالة القضية الفلسطينية والروابط التاريخية والدينية والبشرية التي تجمع بين الشعبين المغربي والفلسطيني  والحس الإنساني للمواطن المغربي الذي لا يقبل الظلم والعدوان، وإنما إلى جانب كل هذا هناك إحساس بالتناقض في الموقف الرسمي للمغرب، فأي عقل يمكن أن يقبل أو يستوعب الدفاع عن القدس والتعاون في ذات الوقت مع من يهدم بيوت أهلها على رؤوسهم ويغير معالمها التاريخية والحضارية والدينية، ويعتدي على حرمة ما تحضنه من مقدسات دينية لها رمزية خاصة ليس لدى مسلمي العالم فقط وإنما أيضا لدى المسيحيين في كل أنحاء المعمور؟ وكيف يمكن الدفاع عن حقوق شعب والتعاون في نفس الوقت مع عدوه الذي ما فتئ يقتل ويشرد أبناءه؟

وإذا كان إقحام قضية الوحدة الترابية للمغرب، كقضية عادلة ومقدسة لدى المغاربة، قد أتاح للموالين والتابعين للمواقف الرسمية “تبرير” الانخراط في التطبيع، فهل يقبل المنظور الحقوقي والمنطق السليم خدمة قضية وطنية عادلة بالتعاون مع محتلين غاصبين لأراضي غيرهم؟ ومتورطين في جرائم خطيرة ضد مدنيين بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن؟ وهل يمكن من الناحيتين الحقوقية والمنطقية  الدفاع عن الحق المشروع للمغرب في وحدته الوطنية والترابية عن طريق جهة متورطة في أبشع الجرائم ضد مدنيين بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن فقط لأنهم يتمسكون بأرضهم وحقوقهم الوطنية.

وأثر صدمة التطبيع لم ينحصر في الاندهاش والذهول أمام التناقض والتراجع عن ثابت راسخ لدى المغاربة منذ تاريخ بعيد، وإنما فجر الكثير من الغضب والاستياء لدى جمهور عريض وتم التعبير عن ذلك من خلال بيانات شديدة اللهجة صادرة عن الهيئات المدنية المناصرة للقضية الفلسطينية، ومن خلال تنظيم وقفات ومسيرات شعبية احتجاجية في معظم المدن المغربية تميزت كلها برفض التطبيع والمطالبة بإلغائه والتأكيد على دعم الشعب المغربي لحق الشعب الفلسطيني مقاومة الاحتلال وتحرير وطنه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

ومن الغريب والتناقض أيضا أن الاحتجاجات السلمية ضد التطبيع وتأكيد تضامن المغاربة مع الشعب الفلسطيني أصبحت تواجهها السلطات العمومية في المغرب بالمنع الممنهج والقمع الشرس، ضدا على الحق الذي تضمنه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمكفول دستوريا للمواطن المغربي في التعبير السلمي عن رأيه وموقفه، وذلك خلافا لما كان معروفا من قبل حيث كان المغرب يعرف طيلة العقود الماضية مسيرات مليونية من أجل القضية الفلسطينية دون أن تتعرض للمنع.

ونستخلص من هذه العجالة أن التوافقات الدولية حينما لا تأخذ بعين الاعتبار مشاعر وإرادة المواطنات والمواطنين في الدول المعنية فهي تتنكر للحق الأساسي للشعوب في اختيار توجهها ومسارها داخل المجتمع الدولي وتطرح إشكالية مدى تمثيلية القرارات السلطوية للإرادة الشعبية،  وحينما تتعمد التغاضي عن أوضاع حقوق الإنسان بمفهومها الكوني وغير القابل للتجزئة وعن انتهاكاتها الجسيمة، فهي تخالف التزاماتها الدولية كطرف في الاتفاقيات المتعلقة بهذا المجال، وفي كل الحالات تخلف آثارا نفسية واجتماعية وسياسية وحقوقية قد لا تكون محمودة العواقب على المجتمع وعلى الدولة نفسها.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button