
رسالة مفتوحة.. سيدي الممثل،
أخاطبك بهذه الصفة لاعتبارين اثنين: فأنت من جهة، إما أنك تعيش بالتمثيل أو تعيش لأجله، وأنت في كلتا الحلتين ممثل. وهدفي من استعمال هذا التمييز “الأكاديمي” (“ب/من أجل”، فهو يرجع إلى ماكس فيبر) هو إعطاء النقاش حول شعار “تازة قبل غزة” – كما يدور في أيامنا هذه – بُعدًا آخر، يمكنني من فحص الإشكالية التي نحن بصددها بهدوء واتزان، وأن أميط اللثام عن المسكوت عنه، وحتى المكبوت، الذي تتغذى عليه الأصوات التي ترتفع للمنافحة عن الشعار ذاته. وأنت من جهة أخرى، نصبت نفسك “ممثلا” للمغاربة تدافع عنهم وتقف إلى جانبهم ضد السيد عبدالإله بن كيران، على الرغم من أنه لم يهاجم “المغاربة”، فقصد فقط أولئك الذين يعتقدون هم كذلك بأنهم يملكون الصلاحية والتخويل الكافيين للحسم نيابة عن كل المغاربة في الشؤون الوطنية، وتصنيف القضايا بحيث تصبح تازة وغزة على طرفَي نقيض لاعتبارات لا تتعدى كونها تمثلات هم في أمس الحاجة إليها لاختلاق طواحين هواء يحاربونها على الطريقة الدونكيشوتية، وذلك لتعزيز هوية هشة قدرها أن ترتكز أبدًا إلى دعامات خارجية لتقف على رجليها.
بعبارة أوضح، فأنا – وبصفتي مغربيًّا – لا أبيح لك ولا لهم أن تتحدثوا باسمي، وربما أكون هنا مضطرًّا كذلك لاستعمال مفردات “أكاديمية”، إذ لا يمكن لي أن أتجرد من ممارستي كقارئ ومترجم، وألا أستحضر ما قاله جاك دريدا في نص ترجمته له تحت عنوان “ماركس وأبناؤه” عن ضرورة تفكيك كل مظاهر الانتساب التي يعتقد أولئك الذين يأخذون بها بأنهم مخوَّلون للكلام باسم نظرية أو موقف ما. فإذا كان دريدا يخاطب الماركسيين الذين تناولوا كتابه أطياف ماركس بالنقد قائلاً لهم: “من خوَّل لكم أن تنصبوا أنفسكم وكلاء على نظرية ماركس؟ هل في حوزتكم وثيقة تركها لكم ماركس للسهر على إرثه؟” فبإمكاني أنا كذلك أن أطالبك، وأطالب من خلالك “أهل غزة”، بالكشف عن الوثيقة التي سلَّمكم المغاربة إياها للتحدث باسمهم واحتكار مشاعر الوطنية.
إذ أجد نفسي تمامًا فيما قاله السيد ابن كيران وآخرين ممن يرفضون الركوب على قضية مشروعة (القضية الوطنية) لضرب قضية أخرى (القضية الفلسطينية) لا تقل مشروعية. ألا يمكن أن يكون هناك مغاربة آخرون يفكرون تمامًا مثل السيد بن كيران، وعلى قناعة تامة بما قاله، وبأنهم على استعداد للتعبير عنه بالطريقة ذاتها أو كلٌّ بطريقته الخاصة؟ سأصيغ بطريقتي الخاصة ما قاله السيد بن كيران مستعملاً مصطلحات قد لا يستسيغها، وله الحق في ذلك. إذ لا يمكن لي أن أتعامى – كما يفعل “أهل تازة” (طبعًا هنا “تازة” لا علاقة لها بالمدينة، ولكني أجد نفسي مضطرًّا لاستعمال هذا المصطلح مواكبةً مني للشعار السخيف الذي حالت بلادة مخترعيه دون التفكير في شعار آخر يكون أذكى وأشد وقعًا) – عن الظروف السياسية الدولية التي تأسست فيها دولة إسرائيل، والتي حكمت عليها بأن تكون وليدًا شرعيًّا للإمبريالية الغربية، وأن تكون وظيفتها الأساسية هي تقمص دور الدركي الذي عليه أن يدافع عن مصالح الغرب في المنطقة، لا لاعتبار آخر سوى أنها تابعة له على نحو عضوي، ولا يمكنها بأية حال من الأحوال قطع الحبل السري الذي يربطها به. وما نراه الآن من التفاف الغرب حول إسرائيل في حربها ضد حماس ومناصريها لخير دليل على ذلك.
ومن ثَمَّ، فالقضية الفلسطينية ليست قضية “أهل غزة” (طبقًا لما ورد في الشعار السخيف ذاته) وحدهم، ما يعني أنها ليست قضية أولئك الذين يرى “أهل تازة” (وهذا هو المسكوت عنه الذي أشرنا إليه أعلاه) بأنهم استعمروهم وسلبوهم لغتهم، وبناءً على هذا، فيحق لهم العمل على تصفية الحسابات معهم بضرب قضيتهم. فالقضية الفلسطينية تهم كل المدافعين عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش في كرامة، ولا أدل على ذلك من أن المدافعين عنها والمناهضين للصهيونية كانوا – وما زالوا – متعددي المشارب والجنسيات والانتماءات العرقية والدينية. وبتعبير آخر، فالقضية الفلسطينية تتقاطع على أكثر من مستوى مع القضية الوطنية التي مكنت جزءًا من التراب الوطني من الخروج من ربقة الاستعمار، ما يعني من اجتثاث جذور الإمبريالية التوسعية. فالقضيتان كلتاهما نبيلتان وتستحقان النضال من أجلهما.
ولنا أن نتساءل: أين تكمن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها “أهل تازة”، وإن لم يكن قطب الرحى لاندفاعهم بحماس وحرارة وراء هذا الشعار – على سخافته – يبقى في الختام معاناة مكبوتة لا سبيل لهم إلى تسميتها للخلاص منها؟ إذ إن “أهل تازة” يدركون في قرارة أنفسهم بأن “التهميش” الذي يعانون منه لا علاقة له برغبة مقصودة من طرف أولئك الذين يُفترض أن القضية الفلسطينية قضيتهم، وبأن الرغبة في تصفية الحسابات معهم – وإن بطريقة غير مباشرة – تقتضي ضرب أولوياتهم في الصميم. القول ذاته ينطبق على دينهم، الذي يعرف “أهل تازة” بأنه يبقى – حتى إشعار آخر – خطًّا أحمر لا يمكن المساس به إلا بالتوسل بطرق ملتوية والركوب على مفاهيم ليست منهم في شيء، كالحداثة والاحتماء بنقاشات من قبيل مسألة الإفطار العلني.
ولا يسعني هنا كذلك إلا أن أحيل إلى مفاهيم “أكاديمية” من قبيل تلك التي استعملها بيير بورديو في نص ترجمته له تحت عنوان ما معنى أن تتكلم: اقتصاد التبادلات اللغوية، والذي يتمحور حول فرضية أساسية مفادها: الحقل اللغوي يخضع للقوانين ذاتها التي تحكم الحقل الاقتصادي. وانطلاقًا من هذه النظرية، يمكن القول بأنه إن كان “أهل تازة” يحسون بأن لغتهم مسلوبة ومهمَّشة، وبأن عليهم الانتقام ممن سلبوها منهم بالعمل على تقويض قضيتهم، فلأنهم يجهلون بأن السوق اللغوية المهيمنة حكمت عليها بأن تبقى أبدًا بلا “قيمة”، وذلك على اعتبار أنها لا تمكن حاملها من اكتساب رأسمال رمزي وضمان تراكمه واستثماره (وأود أن تُجرى يومًا ما أبحاث ميدانية لدى “أهل تازة” لمعرفة كم منهم يبذلون الجهد المطلوب لتلقين أبنائهم لغتهم).
كيف غاب عن “أهل تازة” أن يلاحظوا كيف أن لغة بقوة الفرنسية وعراقتها على وشك أن تفقد “قيمتها”، وأنها بدأت في الانحسار – حتى في عقر دارها، فما بالك بالدول المحسوبة على الفرنكوفونية – لصالح الإنجليزية، لاعتبارات فرضتها السوق اللغوية الدولية؟ كيف ذهب الجهل، أو ربما التجاهل، ب”أهل تازة” إلى حد أنهم نسوا بأن المسلمين عندما فتحوا بلاد فارس تخلت عن زرادشتيتها المجوسية لتعتنق الإسلام، وبقيت محتفظة بلغتها، وذلك لأن السوق اللغوية السائدة عصرئذٍ حكمت بأن تكون للفارسية “قيمة” أكبر من العربية، بحيث إنها تحدَّت السلطة السياسية وفرضت نفسها إلى درجة أنها طبعت لغة الفاتحين وكل مظاهرهم الثقافية وأساليب حكمهم بدون استثناء؟ والأهم من هذا وذاك هو أنها جعلت حامليها يحسون بأنها تمكنهم من اكتساب رأسمال رمزي، بحيث إنها لا تزال تحتفظ إلى يومنا هذا بمكانتها وقوتها وإشعاعها. فأسماء مثل عمر الخيام ونظامي وعطّار وسعدي وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الإرث الثقافي الإنساني. وعندما اكتشف الرومانسيون الألمان – جوته على وجه الخصوص – حافظ الشيرازي من خلال الترجمة الألمانية، انبهروا به إلى حد التماهي معه، ناهيك عن الفيلسوف الألماني هيغل الذي اتخذ الشاعر الفارسي ذاته نموذجًا للشعر الإسلامي.
بعبارة أوضح، لم تصمد لغة “أهل تازة” في وجه لغة “أهل غزة” إلا لأن السوق اللغوية السائدة حينذاك جعلت الثانية أكثر “قيمة” من الأولى، وتمكن حاملوها من ربح رأسمال رمزي والعمل على تراكمه. والمعاناة التي يجهد “أهل تازة” في كبتها هي أنهم لا سبيل لهم إلى تحديد هويتهم إيجابيًّا (“ها نحن”)، وأنهم لا مناص لهم من المرور عبر الآخر وتحديدها سلبيًّا (“ها ما لسنا”) للتميز والتفرد.
وتقبلوا،…إلخ
مراكش، 6/5/2025