
(كش بريس/التحرير)ـ يشكّل فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك محطة مفصلية في المشهد السياسي الأمريكي، ليس فقط لأنه أول مسلم–اشتراكي ديمقراطي يصل إلى هذا الموقع الوازن، بل لأن هذا الانتصار جاء محمّلًا برمزية سياسية وأيديولوجية تعبّر عن تحوّل عميق في المزاج الحضري الأمريكي، وفي طبيعة المواجهة المقبلة مع التيار الشعبوي الذي يمثله الرئيس السابق دونالد ترامب.
في خطاب النصر، الذي ألقاه أمام حشد من مؤيديه مساء الثلاثاء، قال ممداني: “إذا كان هناك من يستطيع أن يظهر لأمة خانها دونالد ترامب طريقة هزيمته، فهي المدينة التي أوصلته إلى ما هو عليه.”
كانت عباراته واضحة، جريئة، ومشحونة بنَفَسٍ تعبوي يزاوج بين الثقة بالذات والرغبة في التغيير. وأضاف:
“نيويورك ستكون النور في هذا الوقت من الظلام السياسي.”
ثم أعلن أمام الجماهير: “أنا مسلم، أنا اشتراكي ديمقراطي، وأرفض الاعتذار عن أيٍّ من هذا.”
هكذا، لم يكن ممداني يخوض فقط معركة انتخابية محلية، بل كان يقدّم نفسه كصوتٍ جديدٍ لمرحلة سياسية مغايرة في أمريكا ما بعد ترامب، مرحلة تُعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية، وللقيم التعددية، ولأصوات الأقليات التي كانت لعقود خارج مراكز القرار.
من الانتصار المحلي إلى الإشارة الوطنية
يتجاوز فوز ممداني حدود مدينة نيويورك ليصبح رمزًا وطنيًا لانقلاب في خرائط التأثير السياسي.
ففي وقتٍ ما تزال فيه البلاد منقسمة بين تيارين متناقضين — يميني محافظ يقوده الخطاب القومي والهوية البيضاء، وتيار تقدمي يسعى إلى ترميم العدالة الاجتماعية — يأتي هذا الفوز كدليل على أن المدن الكبرى باتت مختبرًا للتغيير السياسي قبل أن تصل موجاته إلى العاصمة الفدرالية.
لقد استطاع ممداني أن يحشد تحالفًا واسعًا من الشباب والمهاجرين والطبقة العاملة، ما يدل على صعود يسار حضري جديد، يؤمن بالسياسات التوزيعية والعدالة الضريبية ومناهضة الفساد الاقتصادي الذي يستفيد منه الأثرياء وأصحاب النفوذ.
مواجهة مباشرة مع ترامب: صدام رمزي وسياسي
منذ لحظة خطابه، تحوّل ممداني إلى خصم رمزي مباشر لترامب. ففي كلمته، لم يُخفِ رغبته في مواجهة ثقافة الكراهية التي أسهمت في صعود الرئيس السابق، قائلاً: “لن تكون نيويورك بعد الآن مدينة تُكسب فيها الانتخابات عبر نشر خطاب الكراهية ضد المسلمين.”
بل وجّه حديثه إلى ترامب شخصيًا: “إذا كانت هناك طريقة واحدة لتخويف طاغية، فهي القضاء على الظروف التي تُمكّنه من الوصول إلى السلطة… لذا، يا دونالد ترامب، أقول لك لأنني أعلم أنك تراقبني: ارفع مستوى الصوت.”
لم يكن هذا مجرد تصريح انتخابي، بل إعلان صريح عن بداية مواجهة فكرية وسياسية بين نموذجين للولايات المتحدة:
نموذج يقوم على التعددية والعدالة الاجتماعية والمواطنة الشاملة،
وآخر يستمد قوته من الاستقطاب، والخوف، والهوية المنغلقة.
البعد الاقتصادي والاجتماعي: من نقد النيوليبرالية إلى بناء البديل
أكد ممداني أنه سيعمل على تفكيك “ثقافة الفساد” التي تسمح، حسب قوله، لأمثال ترامب بالتهرب الضريبي والانتفاع من الإعفاءات على حساب دافعي الضرائب.
وبرنامجه الانتخابي يرتكز على، إصلاح ضريبي عادل يستهدف الشركات الكبرى، وسياسات إسكان تُواجه المضاربة العقارية، وتعزيز الخدمات العامة، ورفع صوت الفئات العاملة والمهاجرة.
بهذا المعنى، فإن مشروعه يمثل نقدًا عمليًا للنظام النيوليبرالي الأمريكي الذي وسّع الفوارق الطبقية، ويعيد صوغ مفهوم المدينة كمجال تضامني، لا كمؤسسة لخدمة رأس المال.
رمزية الهوية: من الهامش إلى القيادة
يقدّم ممداني، المولود لعائلة مهاجرة من أصول جنوب آسيوية، نموذجًا للهوية الأمريكية الجديدة — المتعددة الثقافات، الرافضة للانغلاق، والمعتزة بتنوعها.
وحين يقول: “نيويورك مدينة بُنيت على أيدي المهاجرين، وستُدار اعتبارًا من هذه الليلة على أيدي المهاجرين”، فهو لا يعلن فقط فخره بجذوره، بل يوجّه رسالة سياسية صريحة بأن التمثيل لم يعد حكرًا على الطبقة البيضاء أو النخب التقليدية.
بهذا، يتحول فوزه إلى منعطف ثقافي بقدر ما هو سياسي، إذ يعيد تعريف “الأمريكي” كهوية شاملة لا تُقاس بلون البشرة أو العقيدة، بل بقدرة الفرد على خدمة الصالح العام.
أفق الصراع الفدرالي المقبل
من المنتظر أن يفتح هذا المسار مواجهة مؤسساتية محتملة مع البيت الأبيض، خصوصًا إذا سعى ترامب أو أنصاره إلى التضييق المالي على نيويورك عبر خفض التمويلات الفدرالية أو استخدام أدوات الرقابة السياسية.
لكن ممداني يبدو مستعدًا لهذا السيناريو، إذ يراهن على تعبئة داخلية واسعة وخلق تحالفات بين المدن التقدمية كشيكاغو ولوس أنجلوس وسان فرانسيسكو، لتشكيل جبهة حضرية قادرة على مقاومة السياسات المحافظة على المستوى الفدرالي.
من المدينة إلى الأمة
لا يمكن قراءة انتصار ممداني بمعزل عن السياق الأمريكي العام: فهو تعبير عن رغبة جيلٍ جديد في استعادة السياسة من قبضة المال والإعلام، وإعادة توجيهها نحو القضايا الاجتماعية والعدالة المناخية وحقوق الأقليات.
إنه جزء من موجة عالمية لعودة اليسار التقدمي، توازي ما شهدته أمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية من تحولات مشابهة، تعكس أزمة النموذج النيوليبرالي وبحث المجتمعات عن بدائل أكثر إنصافًا وإنسانية.
زمن السياسة الجديدة
فوز زهران ممداني ليس مجرد انتصار انتخابي، بل بداية لمرحلة سياسية جديدة تتقاطع فيها الهُوية، والاقتصاد، والعدالة الاجتماعية في معركة واحدة ضد الاستبداد الاقتصادي والسياسي.
لقد قالها ممداني بوضوح: “بهذا الفوز أطحنا بسلطنة سياسية، ومنحتمونا تفويضًا للتغيير.” تلك الجملة تختصر المعنى كله: فمن قلب نيويورك، المدينة التي كانت رمزًا للرأسمالية العالمية، ينهض اليوم صوتٌ اشتراكي ديمقراطي، مسلم، مهاجر، ليعلن أن أمريكا المقبلة تُبنى من الهامش لا من القصر، وأن الكرامة السياسية يمكن أن تبدأ بخطاب نصرٍ صادق، ولكنها تُختبر في الفعل اليومي للعدالة.





