
من يعتقد أن مدرسة اليوم توجد خارج لعبة الرأسمالية في أبعادها الإنتاجية والاستهلاكية، وفي انضباطها لقوانين العرض والطلب، وخوارزميات الحاجات، ويتوهم أن هذه المؤسسة مستقلة عن مجرى الصراع الاجتماعي وخارج لعبة الهيمنة بمختلف واجهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فهو بالتأكيد يحتاج إلى منظار جديد وعيون مغايرة حتى يرى الواقع على حقيقته. الرأسمالية وخاصة الأكثر توحشا وانزياحا، كما تهيمن على مؤسسات الدولة وسلطاتها التنفيذية والقضائية والتشريعية والتحكم في حركتها اليومية توجيها وتوظيفا لخدمة أهدافها وتحقيق مصالحها، فهي كذلك، وبشكل أكثر فظاعة، تهيمن على المدرسة وعلى النموذج المدرسي، سواء أكان تحت مسمى القطاع العام أو القطاع الخاص. إنها هيمنة على الخدمة العمومية في تكلفتها وقيمتها الاجتماعية والاقتصادية وقيمها الأخلاقية ونموذجها البيداغوجي وطبيعة مخرجاتها، بما يجعلها مفرغة من المعنى، كما هي مفرغة من عمقها الدستوري والحقوقي والإنساني، وتبعا لذلك، تنزاح المدرسة عن وظيفتها كمؤسسة من مؤسسات الدولة والمجتمع مكلفة بتأمين التمتع بالحق وفق مرجعيته الدستورية وخلفياته الحقوقية والإنسانية، إلى مؤسسة تنتج الفارق في التمتع بهذا الحق، لا على أساس المساواة والعدالة والإنصاف، وإنما على أساس الانتماء الاجتماعي والرأسمال الرمزي والفرص المتاحة في ظل منظومة عامة تغيب عنها الشفافية وتكافؤ الفرص وتحكمها العلاقات البيروقراطية والولاءات والانتماءات.
كنت دائما أدافع عن المدرسة وعن ضرورة مأسستها والارتقاء بأدائها التربوي والإداري وعن الارتقاء بوظيفتها ضمن مؤسسات الدولة والمجتمع. أدافع عن الإستقلالية البيداغوجية رغم علمي المسبق والأكيد بتكلفتها الباهظة، وأدافع عن الإستقلالية الإدارية للمدرسة في ضوء مستلزمات ومقومات الحكامة الجيدة وتدبير القرب حتى وأنا أعي حجم الإكراهات والتحديات. أومن باستقلالية المدرسة وبتدبير القرب، رغم علمي المسبق بما تحتاجه هذه الاستقلالية من إرادة سياسية ومن إمكانيات ومن موارد ومن خبرة ومن توسيع لدائرة الصلاحيات وتفويض تدريجي للمسؤولية. كما أومن بأن مشروع تحول المدرسة للتكيف مع محيطها الوطني والدولي بما يجعلها تستجيب لحاجات الأفراد والمجتمع وتسهم في الارتقاء والتنمية لا يمكن إنجازه إلا في إطار مرجعية قانونية وتشريعية واضحة ودقيقة وشاملة لمختلف جوانب المنظومة دون اختزال أو تذرية؛ واعتمادا على موارد بشرية مؤهلة ومنخرطة وملتزمة ومسؤولة وذات خبرة وكفاءة وجدارة؛ وعلى نموذج بيداغوجي أصيل يتجاوز براديغمات التهجين والترقيع والاختزال البيداغوجي؛ وعلى استثمار وتمويل وموارد مالية وطنية. لكني كنت ولا زلت وسأظل غير مقتنع باستيراد النماذج واستيراد الخبرة، وغير مقتنع بضبابية الاختيارات وتعويم التوجهات وتهجين النموذج البيداغوجي؛ بل إني ضد النمذجة والتنميط البيداغوجي والإداري، ضد الهيمنة على المدرسة وانزياحها وظيفيا وتورطها طبقيا واختزال أدوارها.
إن مدرسة المستقبل لا يمكن أن تكون إلا مدرسة القرب وفضاء حقيقيا لتنمية أخلاق الانتماء للوطن وتنمية أخلاق الاختلاف والتنوع وقبول الآخر المختلف. وفضاء حقيقيا وآمنا لتنمية التعلم وتعلم التعلم والتربية على الحياة بمختلف روافدها. أما مدرسة الفرز، مهما كانت أهدافها وطبيعتها وحجم تدخلاتها ومساهمتها، فهي مدرسة تقليدية بالضرورة، ولا حداثية ولا حتى حديثة. إنها مدرسة تغذي العداء الاجتماعي والتناحر البنيوي، وتسهم في زعزعة دعامات الاستقرار الاجتماعي. إنها مدرسة السوق المفتوح فمها على التفاهة والوعي الزائف وعلى قيمة تدخلاتها في دعم حاجات السوق وموارد الربح والجشع، وفي تعزيز الفرز الاجتماعي وإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية، ومن ثمة فهي مدرسة لا يمكنها أن تنتج مجتمع المواطنة الحقيقية القائمة على تنمية الحق في التنمية الذي يغذي الهوية المشتركة والعيش المشترك والمصير الوطني والإنساني المشترك. المدرسة في ظل هذه النزعة الرأسمالية المهيمنة لا تنتج إلا مجتمع الإنسان ذو البعد الواحد (هاربرت ماركوز)، ومجتمع الأفراد (نوربرت إلياس)، ومجتمع الأنانيات الفردية القاتلة، ومجتمع العلاقات المختزلة والنزعات الانعزالية والتنافس والتسابق خارج دائرة أخلاق السمو. إنها، بكل بساطة، أكثر من مؤسسة لإعادة الإنتاج الفوارق والعلاقات السائدة، وإنما هي كذلك مؤسسة لدعم التخلص من القيم والأخلاق وضياع المعنى وإنتاج التشظي وتفكيك الهوية الجمعية وتعزيز الهويات القاتلة وترسيخ أسس العداء الاجتماعي.