فنون وثقافةلحظة تفكير

أذة/ فوزية رفيق: مليكة العاصمي…. أيقونة مراكش*

مساء الخير
مساء الطموح إلى عالم يسوده الأمن والأمان…
مساء بهيٌّ في حضرتكم/في حضرة الفكر والثقافة والإبداع
أيها الحضور الكريم

اسمحوا لي في البداية أن أقول لكم أنني اجتزت امتحانات عديدة داخل الوطن وخارجه، ولصعوبتها أحيانا كنت أشعر بثقلها، فتخترق الرهبة كياني، ولا أجد من مفر سوى التسلح بالصمود والتحدي لكنني في الأخير كنت أتجاوز حاجز الخوف و أقفز على كل المسالك الوعرة ويكون قطافي التفوق.
كنت دوما أرفض عبارة يعجز اللسان عن التعبير، كما لا أتفق مع أمير الشعراء شوقي في قوله:
وتعطلت لغة الكلام…. كنت أقول وأنا العاشقة للغة الضاد

كيف للُّغة أن تتعطل، وكيف للسان أن يصيبه العيُّ فلا يعبر، ولغتنا ثرية، غنية بإمكاننا أن نغترف من بحر علومها ما نشاء. ولكنني اليوم وأنا في حضرة قامة فكرية سامقة، أخوف ما أخاف عليه أن يخونني لساني، و تتعطل لغة الكلام…

أنا اليوم أمام امتحان عسير دعواتكم لي بالتوفيق أيها الإخوة والأخوات.
في هذا اللقاء الماتع، طلبا وليس أمرا شدوا الرحال معي، فأنا أدعوكم لمرافقتي في سفر ممتع ولكن … علىّ أن أضبط فيه خطواتي جيدا، وأن أضع لها ألف حساب كي لا أزيغ عن الطريق، وأنتم سندي، فأنا اليوم سأنبش، في ذاكرة “نساء في امرأة” أو بلغة أخرى امرأة اجتمعت فيها العديد من النساء، اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها، تلتحف الصمت حين يكون حكمة، تكسره حين يكون نقمة. صوت أنثوي متمرد، ينتزع حقه انتزاعا، مهما كان الثمن، تتقن فن التحليق في عوالم الفكر والسياسة والشعر، تعيد تشكيلها، ونحتها وفق رؤيا جديدة، تستشرف المستقبل و الممكن تطرزها بحرفها الأنيق وقناعاتها الراسخة والتي لم يغيرها الزمن، وبذهنها المتقد كما هو الضوء المتلألئ، وفكرها المتنور وطبعها المتمرد، هي بركان لا يهدأ.
من قلق السؤال والبحث عن الحقيقة تفتق وعيها وتعمق، ومن قلب هموم المجتمع انتفضت جرأتها، ورغم كل المحن والعراقيل انتصرت للحياة بابتسامة مترعة بالأمل والتفاؤل، ابتسامة مطمئنة للأفئدة والنفوس…
من أين أبتدئ الحكاية؟”أن تقتحم الأنثى فضاء الإبداع الشعري وتمنح فيه أينع الثمرات فهذا صنيع جميل، وأن تضع هذه الأنثى الشاعرة موهبتها الشعرية في خدمة قضية وعقيدة، فهذا صنيع جميل وجليل.
هذه الأنثى جمعت بين الحسنيين، القصيدة و القضية أو القصيدة والعقيدة، في قرن إبداعي واحد”
هذا ما قاله عنها الناقد الدكتور نجيب العوفي.
إنها إلزا المراكشية كما يطيب للبعض تسميتها ،الشاعرة والباحثة والسياسية،الأستاذة مليكة العاصمي ،أيقونة القصيدة المغربية والعربية،” التي اختارت الحداثة الشعرية، شِرعة ومنهاجا “(العوفي) ابنة المدينة الحمراء، مراكش الحبيبة.

صوت شعري عابر للأجيال كما يقال.
صعب أن تتحدث عن امرأة شامخة وشمت تاريخ المغرب، وذاكرة القراء، وتاريخ السياسة والإبداع، امرأة عريقة في المجد كمدينتها، لا تُهزم ولا تشيخ.
عنها قيل المثقفة التي جمعت بين ليونة الشعر، وخشونة السياسة مع احتفاظها دوما بحسها المرهف.
في نظركم هل كان من الممكن أن تكون غير ما هي عليه الآن؟
نشأت الصبية في أسرة جذورها راسخة في تربة عنيدة، جمعت بين العلم والنضال والمقاومة، من جهة الأم والأب، يكفي أن نعرف أن أباها هو العالم مولاي أحمد بلحسن العاصمي، علم من كبار أعلام مدينة مراكش، الفقيه الجليل الأستاذ المتضلع في الشريعة وأصول الدين وعلم المنطق وعلم التوقيت والفلك والتنجيم والرياضيات،وعمَّها هو المناضل الشاعر عبد القادر حسن الذي شهر سلاحا من أقوى الأسلحة في وجه المستعمر، دون خوف أو تردد، كلمات نارية أربكت العدو، دواوين شعرية، قاوم بها الاستعمار، وهو أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالإستقلال، شكل رفقة الأستاذ عبد الله إبراهيم ثنائيا وازنا في مدينة مراكش.
أما والدتها فهي َمن مؤسسات الحركة الوطنية في مراكش، ومن المساهمات في تأسيس جمعية فتيات الفضيلة و الحركة النسوية الإستقلالية وهي من عائلة عريقة، عالمة عرفت بالجود والكرم هي عائلة آل سليطين. تشكل وعي الصبية منذ صباها، فقد تربت كما أشرت في أسرة عرفت بنضالاتها المستميتة في فترة تاريخية عصيبة هي فترة الإستعمار الغاشم وكانت محاطة بلفيف من المناضلين من العيار الثقيل والتحقت بالعمل الجمعوي وهي بعد طفلة، ثم انخرطت في العمل السياسي وكذا الدفاع عن قضية المرأة. وستقودها الأقدار لأن تتزوج مناضلا صنديدا، اعتقل على حد علمي في سن 16 هو الأستاذ محمد الأديب المحامي بهيئة مراكش، والنقيب السابق، الرجل الحصيف. عندما سألت عنه قيل لي أنه يتعامل بحكمة وروية، الهدوء من سماته الأساسية ما لم تمس ثوابته….
هذه هي الأستاذة مالكة العاصمي…. وأنا أكتب عنها هذه الشهادة ألح علي سؤال كلما أبعدته عن ذهني يزيد إلحاحا، سأطرحه الآن عليها : أكنت تلعبين وأنت طفلة ؟ ترددين أناشيد الصغار؟ أكان لديك الوقت للإستمتاع بحكايات جدتك وانت نائمة على ركبتها وهي منشغلة بالتجذيف في شعرك ؟
من المؤكد أن جوابك لن يكون بالإيجاب، ما دام الجيل الذي تنتمين إليه كان منشغلا بقضايا الوطن، وتحرره من ربقة الإستعمار، وكانت اغلب النقاشات التي تعرفها الأسر تتمحور حول هذه القضية . فالتنشئة التي كانت الأسر الوطنية العريقة تربي أطفالها عليها كانت تجعل من حب الوطن المبتدأ والخبر، ويكفي ان نستحضر نوعية الاغاني والأناشيد التي كان الأطفال يحفظونها في هذه الفترة…
إيه… دولة المغرب… إيه أمة المغرب
إن نعش عشنا كراما….. أو نمت متنا كراما

كنت طفلة بالإعدادي عندما تعرفت على اسم الأستاذة مالكة العاصمي، كما أخبرتها ذاتَ لقاءـ،فقد كنت أسمع عنها من طرف بعض أساتذتي الأجلاء، الذين كانوا يحفظون حق المرأة بالاعتراف بانجازاتها وقدرتها على اقتحام كل المجالات، إن أتيحت لها الفرصة ورُفع عنها الحصار. كان أستاذي يقول: المرأة المغربية شأنها شأن نساء العالم في الذكاء وتعدد المواهب، ويذكر لنا أسماء أجنبية لم يستقم لسانُنا على نطقها إلا بعد أن كبرنا، كلارا زيتكن/ألكسندر ا كولونتاي/روزا لوكسمبور وأخريات…. وكانت الأستاذة مالكة آنذاك قد اقتحمت مجالا كان حكرا على الذكور، هو مجال الصحافة حيث أصدرت جريدة الإختيار” التي اعتبرتْها تحديا لمرحلة عرفت بانتهاكات جسيمة وخروقات عديدة في مجال حقوق الإنسان، وهي مرحلة السبعينيات.
تقول: أصدرتُ جريدة كانت صوتا للحرية سنة 1973،شكلت منبرا وملتقى ثقافيا له تميزه وخصوصيته وتأثيره.
سألت يوما عنها أبي، الذي كان هو مرجعي:
ـأتعرف الأستاذة مالكة العاصمي أبي؟
أجابني:لمَ السؤال؟
حكيت له ما حكى لنا الأستاذ..
قال:أسمع بها…

قلت من تكون؟
قال: امرأة حرة تدافع عن وطنها.


كنت أرسم صورا مختلفة في ذهني للأستاذة مالكة العاصمي، أحاول البحث عن وجهها في وجوه النساء الرائدات اللواتي أعرف البعض منهن من خلال تاريخهن و أسمائهن وصورهن آنذاك.
هل تشبه مي زيادة؟ كنت أخاطب نفسي، هل تشبه ثريا الشاوي التي تحدت المستعمر لا.. لا هي ربما تشبه هدى شعراوي، مليكة تقاوم المجتمع الذكوري،وتدافع عن وطنها، وكذلك هدى شعراوي كانت، لا…. لا ربما تشبه جميلة بوحيرد، للإشارة فقط، من درس الإعدادي في فترة السبعينيات سيتذكر أن نصوص المطالعة المقررة آنذاك كانت تتضمن نصا حول هذه الشخصية، وكان هناك شريط سينمائي مصري ليوسف شاهين، بطولة ماجدة انبهرنا من خلاله بجميلة، لدرجة كنا نتمنى أن نكون في مكانها، مهلا… قد تكون كمليكة الفاسي الموقعة بكل جرأة وجسارة على وثيقة المطالبة بالإستقلال، بعدها كنت أجد نفسي أشبهها بنازك الملائكة، أليس الشعر قاسما مشتركا بينهما؟ … على أيّ هذه تصورات طفلة…
لم أكن أدري أن الأقدار بعد سنوات طويلة ستقودني إلى مدينة مراكش، وسأتعين بالصدفة في ثانوية عودة السعدية، المؤسسة التي كانت تعمل بها الأستاذة مالكة مديرة لسنوات، وستقودني الصدفة إلى أرشيف المؤسسة وأجد نفسي أمام أعداد من جريدة الإختيار، وسأصاب بالدهشة،وجدت أسماء كثيرة بعضهم أصدقاء لزوجي ولي، الأستاذأحمد طليمات، الأستاذ عبد العزيز طليمات، الأستاذ عزيز بنسماعيل رحمهم الله، والأستاذ طالع السعود الأطلسي وآخرون،. سأستمتع بأحاديث طويلة عنها من طرف زميلاتها، وزملائها الأساتذة، الذين حكوا لي ولا زالوا كلما أتيحت الفرصة عن العلاقة الطيبة التي كانت تجمعهم بها، هناك إجماع على محبتها رغم اختلافاتهم الكثيرة…
بعد سنوات سيلتحق أحد الأساتذة بالمؤسسة، وهو الأستاذ مولاي عبد الواحد الطالبي كان لا يتوانى عن الحديث عنها باعتبار قربه منها فكريا وسياسيا، يتحدث عن طيبتها ووفائها وإخلاصها في عملها، كانت بالنسبة له القدوة والمثال ، يثني عليها وعلى أسرتها دوما بالخير، كنا في الثانوية نشعر باعتزازه لانتمائه لنفس المدرسة التي تنتمي إليها الأستاذة. كان يحكي لنا عن مواقفها الإنسانية والتضامنية وعن أريحيتها وجودها وكرمها.
ذاك ما سأقف عليه عندما تعرفت عليها عن كثب من خلال لقاءات ثقافية وتربوية، ومن خلال زيارتها للمؤسسة حيث كانت اللجنة التنظيمية للأنشطة تضع اسمها على رأس قائمة المدعوين والمدعوات، و التزامها بحضور حفلات التكريم والتأبين.
ما سأقوله قد يبدو أمرا عاديا في هذه المرحلة التاريخية من بلدنا،التي جرت فيها مياه كثيرة تحت جسر الفكر والثقافة والسياسة، ولكن بالنسبة للفترة التي أصدرت فيها الأستاذة جريدة الاختيار، كان الأمر جرأة وشجاعة منقطعة النظير، باعتبار السمة العامة لفترة السبعينيات والتي تميزت بما تعرفونه تحت مسمى سنوات الجمر والرصاص، لقد استطاعت أن تتجاوز التخندق الإيديولوجي والسياسي والفكري، وأن تفتح نوافذ وأبواب جريدة الإختيار لكل الأصوات الفاعلة في الساحة بغض النظر عن انتماءاتها ومشاربها السياسية والفكرية، وهو ما يعد إنجازا كبيرا سيظل وساما على صدرها.


أحترمُها كما احترمَ فيها الآخرون روحَها الديمقراطية وصمودها وقدرتها على نسج علاقات وطيدة مع كل التيارات الفكريةو السياسية وهو ما يجعلها أيقونة كل من يعرفها ومحط تقديره…
بقيت الأستاذة ثابتة على مبادئها وقناعاتها ومواقفها رغم عوادي الزمن، لم تتراجع ولم تلن عن الانتماء إلى مدرستها الأصل، المدرسة الوطنية لحزب الإستقلال.
فهنيئا لنا بها وهنيئا لابنها البروفيسور غسان رمز التفاني في العمل، والذي يشهد له الجميع بالدور الفعال الذي لعبه في تنوير الرأي العام خلال جائحة كورونا، من خلال الأشرطة التي كان يبثها والتي حققت تواصلا كبيرا مع المواطنات والمواطنين، فهذا الشبل من ذاك الأسد، و ولبناتها/أميراتها عبير الورد والزهر، ونغم الصباح و الحياة وريم آخر العنقود رمز النقاء والرقة ،من أين هذه الأغصان من تلك الشجرة، هنيئا لهم بأبيهم الرجل النبيل وبأمهم المرأة التي أجمع الناس على حبها وتقديرها…
شكرا لجمعية ابن يوسف للثقافة والتنمية والتضامن التي أتاحت لي فرصة المساهمة في هذا الحفل التكريمي البهيّ، الذي يُعلي بامتياز من ثقافة الاعتراف التي ما أحوجنا إليها، شكرا للجنة المنظمة ، شكرا للأستاذ عبد الرحيم الشنكيطي الأنصاري، شكرا للأستاذ المسير المكي مربي على رحابة صدره، وشكرا للحضور الكريم الذي رافقني في هذه الرحلة، التي أتمنى أن تكون ممتعة….

* الكلمة (شهادة) التي ألقتها الأديبة والشاعرة الأستاذة فوزية رفيق في حق الشاعرة والباحثة مليكة العاصمي، خلال فعاليات تكريمها يوم الجمعة 25 مارس 2022 بمراكش، والمنظمة من قبل جمعية ابن يوسف للثقافة والتنمية والتضامن

‏مقالات ذات صلة

Back to top button