
(كش بريس/التحرير)ـ في قلب المختبرات الهادئة بجامعة تكساس «A&M»، نجح فريق من الباحثين في كشف واحدة من أكثر الخدع البيولوجية إتقاناً التي تمارسها الخلايا السرطانية داخل أجساد الأطفال. لم يكن الاكتشاف مجرد خطوة طبية جديدة، بل نافذة مفتوحة على كيفية تفكير الخلية في لحظة جنونها الوراثي، حين تتحول من كيان منظم يخدم الحياة، إلى ورشة عشوائية تبني الموت داخل الجسد ذاته.
فقد بينت الدراسة، التي نشرتها منصة «ميديكال إكسبريس»، أن الخلايا السرطانية في نوع نادر وشديد الخطورة من سرطان الكلى يعرف باسم سرطان الخلايا الكلوية الانتقالي (tRCC)، تقوم بإنشاء «مراكز قطرية سائلة» داخل نواتها. هذه المراكز ليست إلا مصانع مصغّرة تنشط الجينات المسؤولة عن تغذية الورم وتحفيز انقسام الخلايا بلا توقف. تشبه مجازاً ، «مكاتب عمل مشتركة» داخل النواة، لكنها لا تنتج الإبداع، بل تسرّع عملية التدمير.
في هذا السياق، قلب الباحث يون هوانغ المفهوم الكلاسيكي عن الحمض النووي الريبي «RNA»، الذي ظل يُنظر إليه لعقود على أنه ناقل صامت للمعلومات الوراثية. غير أن الدراسة أثبتت أنه فاعل حيوي يشارك في «البناء البنيوي» لهذه المراكز السائلة، مؤدياً دوراً مزدوجاً: مرسال للرسائل الجينية، ومهندس خفيّ لمعماريات المرض.
ويُعد هذا النوع من السرطان تحدياً طبياً معقداً، إذ ينشأ من اندماج جينات TFE3 نتيجة تبادل غير طبيعي بين الكروموسومات، فتنتج بروتينات هجينة تمتلك قدرة هائلة على تحفيز الانقسام الخلوي خارج السيطرة. الأكثر إثارة أن الفريق اكتشف وجود بروتين آخر، PSPC1، يثبت تلك القطرات السائلة ويزيد من فاعليتها في تنشيط الجينات المسببة للورم، ما يجعله أشبه «بإسمنت جزيئي» يربط مكونات الورم داخل النواة.
ولفهم هذه التفاعلات الدقيقة، استعان العلماء بمجموعة من أدوات البيولوجيا الجزيئية الحديثة: تقنية CRISPR لتتبع البروتينات المندمجة داخل الخلايا، وتقنية SLAM-seq لرصد لحظة اشتعال الجينات أثناء تكوّن القطرات. ومن خلال هذه المقاربة التكنولوجية الدقيقة، تمكّن الفريق من رسم صورة ديناميكية مذهلة لآلية نمو الورم من الداخل.
لكن النقلة الكبرى لم تكن في الوصف، بل في التحكم: إذ ابتكر الباحثون أداة جزيئية ذكية تعمل كـ«مفتاح كيميائي»، تعتمد على أجسام نانوية ترتبط ببروتينات الاندماج وتذيب القطرات السائلة المسؤولة عن تغذية الورم. النتائج كانت مدهشة: توقف نمو السرطان كلياً في الخلايا المختبرية وفي نماذج حيوانية مصابة بالمرض.
هذا الاكتشاف لا يُقرأ فقط بلغة الأرقام والمختبرات، بل أيضاً في ضوء الفكر العلمي الحديث الذي يعيد تعريف الخلية ككائن ديناميكي يتخذ قرارات ذاتية. إنه انتقال من رؤية الخلية كـ«مفاعل بيولوجي» إلى اعتبارها «نظاماً معرفياً» مصغّراً، يتعلم، ويعيد ترتيب مكوناته، ويخطئ أحياناً فيتحول إلى سرطان.
إن القدرة على تعطيل هذه المراكز السائلة من جذورها تمثل خطوة نحو الطب الجزيئي الموجه، الذي لا يكتفي بعلاج الورم، بل يتدخل في بنية الخلية لتصحيح طريقة تفكيرها. وربما نكون أمام بداية مرحلة جديدة من الطب، يتداخل فيها العلم والفلسفة:
ما أنجزه فريق جامعة تكساس ليس مجرد اكتشاف علمي، بل تجسيد لثورة معرفية تعيد تعريف العلاقة بين المادة الحية والمعلومة الوراثية. في عمق هذا الاكتشاف، تتجلى فكرة أن الخلية ليست ضحية جيناتها فحسب، بل أيضاً نتاج تفاعلها مع بيئة داخلية تسيل وتتشكل باستمرار. وإذا كان العلماء قد وجدوا مفتاحاً لإذابة قطرات الموت، فإنهم في الحقيقة بدأوا بكتابة فصل جديد في فهم الحياة ذاتها.





