‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د محمد فخرالدين: عندما يكون البطل أحمقا.. قراءة سيميائية في الدراما الرمضانية

نلاحظ كنقاد للسرد عموما ولكل جنس أدبي يعتمد الحكاية التي لا مناص من جماليتها لينجح العمل الدرامي، أن بعض الأعمال الرمضانية للمواسم الأخيرة أوجلها تفتقد الى الحكاية الصالحة، والشخصيات الحاملة للمعنى الاجتماعي الإيجابي،وهي ـ عند بالها ـ تختار بطلا فرديا مميزا ـ قصدا أو بلعاني ـ أو توزع البطولة جماعيا بين أبطال من طينة خاصة سمتهم الأساسية هو الغباء أو شيء من الحمق العام .. ونحن نعلم جيدا أن كل عمل فني هو نتيجة رؤية فكرية وإبداعية معينة للواقع تتجسد من خلال العالم التخييلي الذي تساهم في بنائه والترويج له ..

الرابط الأساسي في بعض هذه الأعمال الدرامية المشاهدة رمضانيا ـ مع وجود بعض الاستثناءات والإشراقات المحدودة ـ هو كون البطل أحمقا أو غبيا أو فاقدا للذاكرة والهوية، ربما ما قد يبرر ذلك أن إضحاك الجمهور يقتضي مثل هذه الشخصيات التي تتعامل مع الأحداث بشكل سطحي ودون أي عمق قد يثير المشاهد ويذكره بما يعيشه حقيقة، لذلك يتم اختيار كائنات شعبية عفوية من البادية القديمة أو حديثة العهد بالحضارة ، تلبس ألوانا فاقعة وتملأ فراغ الأحداث بمضاء اللسان وتقرقيب الناب وبالفضول أو بالمراهقة المتأخرة في حكايات متفرقة تغيب عنها وحدة الموضوع والهدف الإيجابي الذي تسعى لتحقيقه الشخصيات، ولعل الأمر غير مقصود وجاء صدفة ، أو لكون البطل الأحمق يتعاطف معه الناس لأنه فاقد التمييز، أو لكون الجمهور ـ حسب هذه الرؤية ـ يحتاج لحظات من الحمق لينفلت من الواقع ويندفع إلى فضاء الحلم، أما إذا كان الزوجان أحمقين وكان كل همهما من ينتصر على الآخر بالضربة القاضية، حيث يمر الوقت بينهما في تبادل العنف اللفظي ردا على عنف الواقع، فذلك نموذج آخر للزواج والأسرة السعيدة المبنية أساسا على الشقاق وغير سلامة في الأخلاق، لا يجمع بينها إلا العنف والشنار والنقير كنشاط لفظي مستمر ومتواصل  ..

 ولو كان الأمر يتعلق بحمق عارض لبطل من الأبطال وشخصية من الشخصيات كان ذلك يسيرا، ولكن أن يصير البطل الأحمق ظاهرة إشهارية ودرامية منذ شخصية كبور وشخصية الشعيبية .. وما تناسل عنهما من متشابهات ومتعارضات .. فهذا أمر يستحق التحليل والتأويل إيجابا وسلبا على أساس أن البطل هو أهم شخصية في العمل السردي باعتباره الجاذب الأكبر لاهتمام الجمهور، والشخصية التي تحظى بتعاطف أكبر من باقي الشخصيات، والذي يؤثر سيكولوجيا واجتماعيا على سلوك الجمهور باعتباره نموذج اقتداء وتقليد ..

أما عن مراقي الحمق في هذه الحلقات الدرامية باعتباره نتيجة واستجابة لأسباب متعددة يتفنن فيها كاتب النص لجعلها على قياس ممثلين وممثلات معينات بالصوت و الصورة، وعلى سبيل التخمين يمكن القول أن الكتابة المتشبعة حمقا لا تكون مستقلة عن صورة الشخصيات الواقعية التي يمكن أن تلبس لباس الكائن الأحمق سنا وجنسا وصفة ..

وعودة إلى الأسباب التي يتجسد من خلالها الغباء والحمق في هذه الأعمال ، فإننا نلاحظ أنه موزع بين أسباب متعددة ، حيث نجده مرتبطا بكبر السن جد أو جدة، باسيدي، ومن تم رفع صفة الحكمة والتجربة عن كبار السن وإظهارهم في صفة مراهقين متأخرين لا يكفون عن إزعاج غيرهم، فكبير السن في المنظورـ الفني ـ لهذه الأعمال يعني الحمق والبله وعدم التمييز،أو قد يرتبط بالنوع الاجتماعي كامرأة أو رجل يكيل كل واحد للآخر التهمة بالحمق، أو بالمهنة حيث تختص بعض المهن بتهمة الحمق كالمعلم و الفنان ..أو بالطبقة الاجتماعية حيث يعني الفقر الحمق مباشرة، أو ببعض الصفات الاجتماعية كالبخل الشديد وحب الحصول على المال بأي طريقة كانت ..

وعودة إلى منهج  السيميائيات السردية، التي تقوم على تحليل الفعل السيميائي للشخصيات، لا ينتظر من ذوات كهذه تحقيق برنامج سردية اتصالية إيجابية ، فلا يمكن أن ينتج بطل كهذا إلا إنجازا  يشبهه غارق في الحمق واللامنطق ، ما دام الحمق يعني عدم أهلية الذات للقيام بأي فعل ملائم غير إنتاج الضياع والوهم، وبالتالي انتفاء أي مسؤولية للفاعل، والاعتماد أساسا في إطار ميكانيزمات الدفاع عن الأنا ـ المرفوع عنها القلم ـ على التبرير والإنكار..

 فهل يعني ذلك أن الكاتب الذي يختار البطل أحمقا يريد أن يرسل رسالة ما إلى الجمهور، ويريد أن يروج لقيمة الحمق الاجتماعي كطريقة لتحقيق الربح بسهولة، وتحقيق فائدة ما مقابل ذم العقل والتعقل، مثل رسالة هبل تربح ، وللي بغى يربح يدير راسو هبيل، أو من جهة أخرى قد تتقصد هذه الأعمال تأسيس فن شعبي من نوع خاص بعيدا عن عمق الفن الشعبي الأصيل، بما يرمز له استعمال الطبل والبندير وإعلاء الصوت بغناء مبتذل، وإبراز كل ذلك على أنه الطريق المربحة فرديا و جماعيا، عوض طريق الجد والعمل والتعليم والتعلم ..

إن ظهور شخصية الأحمق في الدراما المعاصرة ورواجها بكثرة، يشير في نهاية الأمر إلى عالم يريد أن يتخلى عن رسالة الفن، وعن كل القيم من أجل الكسب السريع الذي يتمتع به الغباء، ومن تم خلق عالم متصنع بكل التفاصيل فحتى ردات فعل الإعجاب والضحك المسموع يمكن تسجيلها قبلا، وترديدها بعد كل مشهد بشكل مصطنع استجلابا لضحك مشابه ..

وبالتالي تكون هذه الأعمال التي تتبنى الحمق والغباء تعبيرا عن أزمة حقيقية في بناء الفرد والمجتمع ، فبعد أن سدت على الفرد السبل المبنية على الكفاءة والجهد، ولم يعد يجديه العقل في التعامل مع وضعيات إشكالية ومعقدة، كان لا بدل أن يظهر على مستوى التخييل البطل الأحمق ـ الذي لا يفكر في شيء غير الأكل والشرب والنشاط، والذي يعتبر فنيا وماديا، باعتباره بطل كلام لا غير، شخصية تكلفتها سهلة يسيرة، لا تأهيل لها مما يجعلها يتميز أساسا على مستوى الفعل السردي بغياب الإنجاز، أما الجزاء الذي تنشده أساسا فهو إضحاك جمهور معلوم بأي وسيلة كانت، خاصة وأنها تتصور الجمهور كله على شاكلة واحدة سمتها السذاجة والغباء..

فالفرد من هذا المنظور الدرامي يبحث عن سبل جديدة للحصول على الربح أساسها استخدام الحمق ليتسول العيش على حساب الغير، هذا الحمق الذي يظهر أولا على مستوى القول والخطاب السريع والمسجوع والغير المترابط والأفعال الغير المنطقية والمفتقدة للعلاقة مع الواقع .

والظاهر أن كاتب السيناريو أو الحكاية نسي أو تناسى قيمة البطل ودلالته الاجتماعية وقدرته على التأثير على الأطفال واليافعين … فهو أساسا يقدم النموذج الاجتماعي الذي يقتدي به المشاهد ويقلده الطفل ويردد كلامه ..

ـ فماذا هذا يايزة… لم توزعين الحمق بين أبنائك حتى لا نجد بينهم نموذجا رشيدا.

 وما هذا ياهذا، حتى نجد كل النماذج البشرية المستعرضة دراميا يتوزعها الحمق وغير قليل من البلادة والبخل والمباهاة الزائفة بمجد اجتماعي سابق …

يتم كل ذلك من منظور أن جعل الناس سواء في الحمق هو عين العقل .. وأن الشخصيات الناقصة عقلا هي الكفيلة وحدها بخلق كوميديا ناضجة ..

ونلاحظ  كذلك أنه حتى الموضوعات الرائجة بين الشخصيات في هذه الأعمال يسودها الصراع والنزاع البعيد عن العقل والمنطق، والعلاقات المادية خاصة في الصراع بين الزوجين وترويج صورة عن الزواج كنوع من النصب الاحتيال … وقيام العلاقات القرابية على علاقات مادية صرفة ..

فأي نموذج يمكن أن تقدمه لنا هذه الحكاية الفيلمية غير أن الحمق أساس كل ربح اجتماعي أو فردي .. وأن العقل والصلاح وفعل الخير لا أهمية له وصاحبها سيلازمه الفقر والتهميش دائما وأبدا، مع أن المطلوب.. أن وسائل الإعلام يمكن أن تكون لها وظيفة قيمية واضحة ورسالة أخلاقية لتساعد وسائل التنشئة الاجتماعية الأخرى على نموذج التنشئة الاجتماعية الملائم .

وبالتالي ترويج صورة إيجابية عن الفرد والمجتمع، غير الصورة التي مفادها أن النصب والاحتيال والحمق ورفع العقيرة بالصوت والضرب على الطبل في جميع الأحوال هو أساس النجاح في العلاقات الاجتماعية والأسرية .. فمتى تتخلص أعمالنا الدرامية من البطل الأحمق لصالح شخصيات أكثر إيجابية ..

‏مقالات ذات صلة

Back to top button