‏آخر المستجداتفنون وثقافة

يوميات شاعر في أمريكا.. بين نافذة إيميلي ديكنسون وفردوس الشعر

في رحلته إلى الولايات المتحدة، لم يكن الشاعر والروائي والإعلامي المغربي ياسين عدنان مجرد زائر لمدن صاخبة بالأنوار، بل كان شاعرًا يتلمس آثار الشعر والروح عبر الزمان والمكان. كانت إحدى وجهاته بيت إيميلي ديكنسون في أمهرست ماساتشوستس، المكان الذي كرّست فيه الشاعرة كل حياتها للعزلة، وللشعر الذي صار أشبه بمراقبة العالم من نافذة صغيرة.

نافذة إلى روح الشاعرة

تجربة زيارة ياسين لهذا البيت كانت رحلة في الزمن، تجربة استعادة درس الشعر عبر حضور حيّ يربط الماضي بالحاضر، والشاعرة بالقارئ. إذ حين وطأت قدماه حديقة المزرعة، شعر وكأنّه استشعر وقع خُطاه. هناك، على الأسوار، وعلى سطح التربة، وعلى أغصان شجر الدردار، كان طيف إيميلي ديكنسون يراقب، يختبر، ويحتفل بالقصيدة. كلماتها، التي تتردد في صمت المكان، حكت له عن حياتها في عزلة شبه تامة، وعن كونها “لا أحد” في عالم لم يفهم اختياراتها، لكنها في الشعر صارت كل شيء: رجلًا، امرأة، حيوانًا، كائنًا محضًا.

يقول ياسين عدنان :

“أنا لا أحد – من أنت؟

وهل أنت لا أحد أيضًا؟

إذن نحن اثنان لا أحد – لا تخبر أحدًا – فهم سيطردوننا، كما تعلم.”

هكذا خاطبني طيفها من نافذتها. وطمأنته هامسًا: لن أخبر أحدًا، صدقي، لن أخبر أحدًا.

بين المكتبة وغرفة النوم

خلال الجولة داخل البيت يضيف ياسين، اقتادتنا الدليلة بين جنبات المنزل، خاصة المكتبة وغرفة النوم، قبل أن تأخذنا إلى حجرة الدرس حيث بدأت تلقي درسًا في الشعر. قضاة أكثر من عشرين دقيقة في مقارنة خيارات إيميلي التحديثية بالقصائد الطويلة السائدة في عصرها. هنا ظهر ابتكارها في القَصائد القصيرة المكثفة، واستخدامها الفريد للشرطات، والحروف الكبيرة التي تحتفي بمفردات محددة، كل ذلك خلق إيقاعات جديدة للقصيدة، وأعاد تعريف العلاقة بين الشكل والمضمون.

كانت التجربة أشبه بمواجهة حيّة مع أسلوب شاعرة ألهمت إزرا باوند وت. س. إليوت، ووسّعت حدود الشعر الأمريكي نحو أفقٍ شخصي وعالمي في الوقت ذاته.

الشاعرة والدليلة: لقاء مع الاحتمال

في نهاية الجولة، فاجأتنا الدليلة بإعلانها: “بالمناسبة… أنا شاعرة أيضًا”. هنا، تشابهت الشخصيتان، الدليلة وإيميلي، في العيش في فضاء الاحتمال:

“أسكن في الاحتمال –

بيت أجمل من النثر –

نوافذه أكثر عددًا –

وغرفه كأشجار الأرز –

سقف أبدي من قبب السماء –

وزوّاره الأبهى –

ومهنتي أبسط يديّ لأجمع الفردوس.”

كانت هذه الكلمات خاتمة رحلتي في البيت، تلخيصًا لفكرة أن الشعر هو الفردوس الذي نصنعه بأيدينا، ونترك له نوافذ وأبوابًا لكل من يطرقها.

الوداع بتلويحة الشاعر

يتابع الشاعر ياسين: أغادر البيت والمزرعة، وأنا ألوّح لتلويحة شاسعة لذلك الفردوس الشعري الذي خلّدته القصيدة. لم تكن الرحلة مجرد زيارة لمتحف، بل درسًا حيًا في كيف يمكن للشاعر أن يخلق عالمه الخاص، أن يعيش العزلة بلا شعور بالوحدة، وأن يجعل من الكلمات نافذة للعالم بأسره.

في هذه التجربة، يصبح الشعر ليس مجرد كلمات، بل مكانًا للعيش، للتأمل، وللحوار بين الحاضر والماضي، بين القارئ والشاعرة، بين الذات والآخر.

إليكم النص كاملا:

“أقدامٌ جديدة داخل حديقتي تمرُّ –‏

أصابع جديدة تُحرِّك سطح التربة –‏

شاعرٌ متجوِّل فوق شجر الدردار

يهتك أسرار العزلة”

ياه، لكأنّها استشعرَتْ وقعَ خُطاي. هذه الشاعرة التي رأت كلّ شيء، دون أن تبوح لنا بالأسرار. كان علينا أن ننتظر رحيلها لنعرف أنّ شاعرة كبيرة كانت تقيم هنا في هذه المزرعة النائية. ترقب العالم والناس من نافذة صغيرة حانية. نافذة إيميلي ديكنسون.

“‏أنا لا أحد – من أنت؟‏

وهل أنت لا أحد، أيضًا؟‏

إذن نحن اثنان لا أحد –‏

لا تخبر أحدًا – فهم سيطردوننا، كما تعلم.”

هكذا خاطبني طيفُها من النافذة. فطمأنتُها هامسًا بصوت خافت: لن أخبر أحدًا. صدِّقيني إيميلي. لن أخبر أحدًا. لكن، ما بالي أخبركم مباشرة بعد مغادرتي المزرعة. ربما لأنكم مثلي. مثلها. أنتم أيضًا “لا أحد”.

لذا أوصيكم أنتم أيضا. لا تخبروا أحدًا – فهم سيطردوننا كما تعلمون.

في الثلاثينات من عمرها، لم تعد إيميلي تغادر أراضي ضيعة ديكنسون، ثم توقفت تمامًا عن مغادرة المنزل. لم تكن ترى العالم إلا عبر نافذتها. في عام 1864، مرضت وتوفيت عام 1886، عن عمر يناهز 56 عامًا. على الرغم من أنّها كرّست كلَّ حياتها للشعر، ظلّت إيميلي ديكنسون مغمورةً طوال حياتها، ولم تنل ما يليق بريادتها.

من خلال الشعر، تُصبح إيميلي رجلًا، امرأةً، حيوانًا، كائنًا محضًا. تستخدم كلّ ما أوتيت من بصائر لطرح أسئلة حول الحياة، وبالتالي الموت، ساعيةً لمعرفة العالمِ، نفسِها، الله، مُستخدمةً في الكتابة قوى شبه سحرية لمساعدتها في هذا المسعى.

تكتب وكأنّها تمارس سحرًا خفيًّا، تستدعي به القوى الغامضة لتعينها في رحلتها نحو الفهم.

عاشت في الضيعة في عزلة شبه تامة واشتهرت بلقب ناسكة أمهرست. لهذا لم يكن بالإمكان أن أغادر أمهرست، ماساشوستس ونواحيها باتجاه نيويورك، دون أن أزور بيت هذه الشاعرة الذي درَستُ شعرها طالبًا في كلية الآداب بمراكش. والغريب أنّ زيارتي لبيتها الذي صار متحفًا أعادتني إلى حجرة الدرس. فخلال الجولة التي تنقّلنا خلالها بين جنبات البيت: خصوصا مكتبة الأسرة وغرفة نوم إيميلي، عرّجت بنا الدّليلة باتجاه حجرة فيها سبورة وبدأت تُلقّننا درسًا في الشعر. أزيد من عشرين دقيقة قضيناها في حجرة الدرس. هكذا، وجدنا أنفسنا نقارن بين خيارات إيميلي ديكنسون التحديثية وشعر السابقين. توقّفت بنا الدليلة التي تحوّلت فجأةً إلى معلّمة عند انحياز إيميلي للقصائد القصيرة المكثفة بدلًا من القصائد الطويلة السائدة في عصرها، وعند علامات الترقيم غير التقليدية التي وظفتها بشكل لافت في أعمالها، خصوصًا استخدامَها الفريد للشرطات (–) بدلًا من النقط والفواصل وغيرها من علامات الترقيم المعتادة، ممّا فجّر داخل قصائدها إيقاعات جديدة. هذا إلى جانب الاستخدام المُبتكر والمُدهش للحروف الكبيرةCapital letters حيث كانت تكتب كلمات عادية بحروف كبيرة في منتصف السطر إمّا للاحتفاء بمفردات بعينها، لعلها كانت تجدها قريبة إلى روحها، أو لتعزيز الحيوية الإيقاعية الجديدة لقصيدتها.

كنت سعيدًا وأنا أطلُّ بدوري من الشرفة التي كانت تطلُّ منها إيميلي ديكنسون: ملهمة إزرا باوند وت. س. إليوت.

وهي تودِّعنا في نهاية الزيارة، حرصت الدليلة على أن تخبرنا، بفخرٍ مهذّبٍ رقيق: “بالمناسبة… أنا شاعرة أيضًا”.

لكن أين تسكنين، أيّتها الدليلة التي فاجأتنا بملامح المعلّمة، قبل أن تودّعنا بتلويحة الشاعرة؟

أم أنّك، مثل إيميلي، تسكنين في الاحتمال:

“أسكنُ في الاحتمال –

بيتٌ أجملُ من النثرِ –

نوافذُهُ أكثرُ عددًا –

وأبوابُهُ أفخم –

غُرَفٌ كأشجارِ الأرز –

منيعةٌ على العين –

وسقفٌ أبديٌّ من قِبابِ السماء –

زُوّارُهُ الأبهى –

أمّا مهنتي –

فهذهِ –

أبسطُ يديَّ الضئيلتينِ لأجمعَ الفردوس”

وأنا أغادر البيت والمزرعة لم أمنع نفسي من أن ألوّح تلويحة شاسعة لهذا الفردوس الجميل الذي خلّدته القصيدة.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button