
كانت أسس الإصلاح الديني في أوروبا ترتكز على وجه الخصوص على الاعتراض على “صكوك الغفران”، حيث اعتبر مارتن لوثر رائد هذه الثورة الفكرية والعقدية آنذاك أن مغفرة الله هدية مجانية منه وليست بمقابل يُعطى لبعض البشر، فانتقد بشدة تدخل رجال الدين بين الله والبشر وتنصيبهم لأنفسهم وسطاء يوزعون صكوك الغفران نيابة عن الله، كما رفض من جانب آخر السلطة المعرفية والتعليمية التي كان يحتكرها البابا باعتباره وحده من يحسم في تفسير الكتاب المقدس وفهمه، كما اعتبر لوثر الكتاب المقدس المصدر الوحيد لمعرفة الحكمة الإلهية التي لا يحتكرها أحد من البشر، أو يمارس بها تجارة أو سلطة على بقية الناس، هذا دون أن ننسى قراره الشجاع بأن سمح للقساوسة بالزواج عكس رجال الدين الكاثوليك، كما قام بخطوة جريئة بترجمة الإنجيل إلى اللغة العامية لقومه مما قرب لهم المضامين التي كان يحتكرها رجال الدين من خلال إلمامهم باللغة اللاتينية، لغة النخبة العالمة آنذاك.
هذه الخطوات الثورية رغم مرور قرون طويلة عليها (500 سنة)، إلا أنها في بلاد المسلمين ما زالت مطلوبة وبإلحاح، حيث ـ رغم عدم وجود مؤسسة الكنيسة في الإسلام ـ إلا أن المنظومة الدينية الإسلامية ما زالت مغلقة على التطور العلمي والمعرفي وعلى التجارب الديمقراطية لشعوب العالم، وما زال فقهاء المسلمين يعتبرون أنفسهم الوحيدين الذين يحتكرون الفهم والتفسير والتأويل للقرآن والسنة، وما زال من يناقشهم من خارج منطق الفقه القديم يعتبر معاديا للدين نفسه، وهو نفس ما حصل قبل خمسة قرون لمارتن لوثر الذي تم تكفيره من طرف الحرم الكنسي وإدانته باعتبار كتاباته نوعا من “الهرطقة” الخارجة عن القوانين المرعيّة في الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة.
يصعب كثيرا تصور إصلاح شامل يتيح لبلدان منطقتنا النهوض والتطور، وإنجاح تجاربها الديمقراطية بدون حل معضلة الفكر الديني، الذي ما زال يعاكس كل محاولات النهوض والخروج من عصور التخلف، ليس لأنه يستمد قوته من منطقه الداخلي الذي يتصف بهشاشة كبيرة بعد الثورات العلمية والمعرفية التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين، بل لسببين: أحدهما اعتماد الساسة بنسبة كبيرة على جمود الفكر الديني لتبرير تردّدهم وعدم حسمهم في الاختيارات الكبرى بشجاعة، وثانيهما تخلف المجتمعات من خلال تشبثها بنموذج ماضوي لا يلائم قيم العصر الذي نحن فيه. وهذا ما يجعلنا نعتبر بأن من أهم أسباب النهوض والانعتاق القيام بعملية تفكيك لمنطق الفكر الديني التقليدي ومساءلته في قواعده التي مضى عليها زمن طويل دون أن تتغير، حيث صارت من فرط تكريسها دون نقد أو مراجعة حقيقية جزء من الدين نفسه، مما أضفى عليها قداسة وهمية.
ويمكن اعتبار أن أي إصلاح ديني في المجال الثقافي الإسلامي لا يمكن أن ينجح بدون الاعتماد على ستة خطوات ضرورية:
الترجمة من أجل تعميم المعرفة بالأصول:
ذلك لأن من أكبر أسباب تخلف الوعي الإسلامي احتكار الفقهاء لسلطة التفسير والتأويل، عبر احتكار المعرفة باللغة العربية التقليدية، مما يجعل ترجمة مضامين الكتب الدينية إلى لغات الشعوب الإسلامية، أي لغات التواصل الجماهيري، أمرا ضروريا لما يحدثه من تحرير للعقول في معرفة النصوص والإلمام بقضاياها وسياقاتها، ويمكن لوسائل التواصل الاجتماعي الجديدة أن تساعد بشكل كبير على ذلك، وهذا ما يفسر العداء الشديد الذي يناصبه الفقهاء لكل من يتحدث عن ترجمة النصوص الأصلية، أو تفسيرها بتبسيط لعامة الناس، مع بيان سياقاتها وأسبابها.
إعادة القراءة للنصوص المؤسسة ونقد القراءات السابقة:
تعد هذه الخطوة أمرا ضروريا لما أصبح بين أيدينا من وسائل علمية لفهم وتفكيك النصوص عبر إعادة قراءتها على ضوء المناهج العلمية الجديدة، وهي مناهج تظهر بسهولة مقدار هشاشة التفاسير والقراءات القديمة وعدم تماسكها المنطقي، حيث اضطر الفقهاء القدامى إلى اعتماد تفاسير وتأويلات غير مقنعة في أمور كثيرة، مستعملين آلية “الإجماع” في فرضها، ومحاربة الآراء المخالفة.
ربط النصوص بسياقاتها التاريخية:
وهذا سيساهم في نقض القاعدة الفقهية الخاطئة التي تنادي منذ 12 قرنا بأن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” والتي انتهت بالمسلمين إلى الوقوع في التشدّد و تكريس نصوص لا تطابق في شيء واقعهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. مما يقتضي إخضاع الآراء الفقهية والمذاهب الدينية لضرورات الوقت وحاجات الواقع المتحرك.
تفكيك ضوغمائية المؤسسة ونقد السلوكات والممارسات:
وهي خطوة ضرورية نظرا لما أصبحت تمثله المؤسسات الدينية من عوائق كبيرة في طريق تطور المجتمعات وتعديل القوانين ومراجعتها من أجل رعاية مصالح المواطنين وحقوقهم الأساسية، فمؤسسة مثل “الأزهر” في مصر، أو “المجلس العلمي الأعلى” في المغرب، وقعت في أخطاء كثيرة خلال العقود السابقة أدت إلى تأخير عجلة التطور وتجميد النصوص القانونية التي كان ينبغي أن تتغير منذ عقود، ولعل كشف تلك الأخطاء التي وقعت فيها هذه المؤسسات، إلى جانب نقد أصحاب الفتاوى الفردية الذين يرتكبون الأخطاء الفادحة لا لشيء إلا بسبب العناد الإيديولوجي، يعتبر ضرورة ملحة في السياق الراهن.
أنسنة الفكر الفقهي:
وهي عملية تتم من خلال قلب نظام الأولويات بجعل الإنسان ومصلحته وكرامته هم الغاية وليس الدين في ذاته، حيث أن الإنسان هو الهدف من كل البناء الحضاري والتطور العلمي والتقني، مما يجعل الدين وسيلة في خدمة الإنسان وليس غاية في ذاته. حيث يتضح بأن السبب الرئيسي في قساوة الفكر الفقهي وعدم اكتراثه بكرامة الإنسان ـ النساء على الخصوص ـ هو جعله الدين غاية في ذاته، وجعل الإنسان وسيلة في خدمته.