
كش بريس/ التحرير ـ
في تطور يعكس تصاعد التوتر داخل المنظومة الصحية، عبّر التنسيق النقابي الوطني لمهنيي الصحة عن رفضه القاطع لما وصفه بـ”الانقلاب” و”الردة” على الاتفاقات السابقة الموقعة مع الحكومة، عقب إدماج أجور مهنيي الصحة ضمن بند “المعدات والنفقات المختلفة” في مشروع الميزانية الجديدة، بدل إدراجها ضمن “الميزانية العامة للدولة” تحت بند “نفقات الموظفين” كما نص عليه اتفاق 23 يوليوز 2024.
ويأتي هذا الموقف في رسالة شديدة اللهجة وجهها التنسيق إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهرواي، على خلفية ما اعتبره تراجعاً خطيراً عن التزامات حكومية موقعة، ومسّاً بالحقوق المكتسبة لمهنيي القطاع، بل وبالمنطق الإصلاحي الذي أعلنت الحكومة التزامها به منذ إطلاق مشروع التغطية الصحية الشاملة وإعادة هيكلة المنظومة الصحية.
خلفيات الأزمة: من الإصلاح إلى الالتباس المالي
يتعلق جوهر الخلاف بالصيغة الجديدة المقترحة في مشروع الميزانية الفرعية للوزارة، والتي تُدرج أجور مهنيي الصحة العاملين ضمن المجموعات الصحية الترابية في خانة “المعدات والنفقات المختلفة”، وهو ما تعتبره النقابات تحويلاً تقنياً ذا خلفية سياسية ومالية، ينزع عن المهنيين صفة “موظفي الدولة” ويضعهم في موقع هش قانونياً ومالياً.
فمن الناحية التقنية، يعني هذا الإدماج أن أجورهم لن تُصرف مستقبلاً عبر الخزينة العامة للمملكة، بل ضمن ميزانية تشغيلية مرنة تخضع لمنطق التدبير المحلي، وهو ما يتناقض، بحسب النقابات، مع روح البند الثاني من اتفاق يوليوز ومع مقتضيات البند 3 من المادة 23 من قانون المالية 24.60 والمرسوم رقم 2.25.547، اللذين ينصان صراحة على استمرار تحمل الدولة للأجور وصرفها مركزياً.
قراءة سياسية: ثقة على المحك في مسار إصلاح الصحة
تحمل هذه الأزمة دلالات سياسية تتجاوز الطابع المالي، إذ يرى مراقبون أن ما جرى يعكس ارتباكاً في تنزيل ورش إصلاح المنظومة الصحية، بين منطق “الجهوية الصحية” الذي يمنح صلاحيات أوسع للمجموعات الترابية، ومنطق “الوظيفة العمومية الصحية” الذي يضمن الاستقرار المهني والمالي للأطر.
وبين هذين المنطقين، يبدو أن الحكومة تواجه معضلة توازن بين الرغبة في تحديث الإدارة الصحية وتخفيف عبء الميزانية المركزية، وبين الحفاظ على الثقة الاجتماعية في مشروع إصلاحي أعلنته كـ”ثورة بيضاء” في تدبير قطاع حيوي.
رسالة النقابات: لا إصلاح بدون التزام وثقة
في رسالته، حذر التنسيق النقابي من أن التمادي في هذا الخيار المالي قد يعيد الاحتقان إلى القطاع ويقوض الجسور الهشة من الثقة بين المهنيين والوزارة، في لحظة دقيقة تتطلب تعبئة شاملة لإنجاح إصلاح بنيوي غير مسبوق.
وأكدت النقابات أن الحفاظ على الحقوق المكتسبة وتحصين مبدأ الاستقرار الوظيفي يشكلان شرطاً أساسياً لضمان استمرار الخدمة العمومية في الصحة، بعيداً عن الحسابات التقنية أو المحاسبية الضيقة.
تكشف هذه الأزمة عن توتر خفي بين منطق الإصلاح الإداري ومنطق العدالة الاجتماعية داخل مشروع التحول الصحي المغربي.
فبين إرادة الحكومة في عقلنة الإنفاق وتفعيل الجهوية الصحية، ومخاوف المهنيين من تهميشهم في البنية الجديدة، يلوح خطر تراجع الثقة كأحد التحديات الكبرى أمام استدامة الإصلاح.
وفي غياب توضيح سياسي شفاف من وزارة الصحة، تبقى الرسالة النقابية مؤشراً على تحول مطلب مهني مشروع إلى إنذار اجتماعي مفتوح، قد يعيد النقاش حول موقع مهنيي الصحة في معادلة “الإصلاح والإنصاف” إلى واجهة المشهد الوطني.



