
مدريد – تقرير تحليلي
أعاد التقرير السنوي للنيابة العامة الإسبانية حول السنة القضائية 2024 تسليط الضوء على أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات بين مدريد وجارتيها المغاربيتين، المغرب والجزائر. فقد اتهم التقرير، الذي عُرض الجمعة، سلطات البلدين بوضع عراقيل متواصلة أمام تنفيذ قرارات الترحيل، سواء تعلق الأمر بمهاجرين مدانين قضائيا أو آخرين لا يواجهون أي ملاحقات قانونية.
أرقام مقلقة تكشف الفجوة بين القرارات والتنفيذ
بحسب التقرير، تلقت السلطات الإسبانية 4.656 طلبا للترحيل خلال 2024، بزيادة قدرها 512 مقارنة بعام 2023. غير أن هذه الزيادة لم تنعكس على عمليات الإبعاد الفعلية، إذ لم يُرحل سوى 1.037 مهاجرا من أصل 1.893 أُودعوا في مراكز الاحتجاز، بنسبة نجاح لم تتجاوز 54,7%. في المقابل، جرى الإفراج عن 862 آخرين بعد انتهاء الآجال القانونية دون استكمال الإجراءات.
هذا التباين، حسب النيابة العامة، يعكس ضعف التعاون القنصلي من جانب الرباط والجزائر العاصمة، إضافة إلى دول أخرى، وهو ما يحد من فعالية قرارات الطرد ويجعل الكثير من المهاجرين غير النظاميين في وضعية إفلات عملي من المتابعة.
إشكالات متعددة: دبلوماسية وقانونية وإنسانية
التقرير لم يحمّل المسؤولية للعراقيل الدبلوماسية فقط، بل أشار أيضا إلى عوامل قانونية وبيروقراطية. فطلبات اللجوء والحماية الدولية التي يتقدم بها بعض المحتجزين غالبا ما تؤخر أو تعرقل مسطرة الترحيل، في حين يفاقم البطء القضائي صعوبة تنفيذ قرارات الإبعاد داخل المهل المحددة.
إضافة إلى ذلك، دفعت هذه الإشكالات قوات الأمن الإسبانية إلى تقليص طلبات الإيداع في مراكز احتجاز المهاجرين، بسبب العجز عن ضمان الترحيل في الآجال، وهو ما يكشف حدود السياسة الحالية.
ستة مراكز تحت ضغط متزايد
تشغل إسبانيا حاليا ستة مراكز لاحتجاز المهاجرين في مدريد وبرشلونة ومرسية وفالنسيا والجزيرة الخضراء ولاس بالماس دي غران كناريا. لكن محدودية فعاليتها أمام عراقيل التعاون الخارجي تجعلها أشبه بـ”محطات مؤقتة” قبل الإفراج عن المهاجرين، لا فضاءات تضمن تنفيذ قرارات الإبعاد.
الأبعاد السياسية للعقبة المغاربية
تقرير النيابة يضع العلاقات مع المغرب والجزائر في دائرة الضوء. فمن جهة، يشكل المغرب شريكا رئيسيا لإسبانيا في مكافحة الهجرة غير النظامية، وهو ما يمنح الرباط ورقة ضغط في ملفات اقتصادية وسياسية حساسة. ومن جهة أخرى، تدفع القطيعة السياسية بين مدريد والجزائر منذ أزمة الصحراء الغربية إلى تعقيد أكبر في ملف التعاون القضائي والأمني.
هذا التداخل بين الدبلوماسي والقانوني يجعل من ملف الترحيل رهينة لتجاذبات سياسية، أكثر مما هو مجرد مسألة إدارية أو تقنية.
مآلات مفتوحة على توترات أكبر
تحذر النيابة العامة الإسبانية من أن استمرار هذه العراقيل سيؤدي إلى اتساع الفجوة بين القرارات القضائية وتنفيذها، بما يضعف ثقة الرأي العام في النظام القضائي ويزيد من حدة النقاش السياسي الداخلي حول الهجرة والأمن.
وفي الوقت نفسه، يُتوقع أن يستمر الملف كورقة تفاوضية في العلاقات مع المغرب والجزائر، خصوصا مع تزايد الضغوط الأوروبية على مدريد لإحكام السيطرة على حدودها الجنوبية باعتبارها بوابة رئيسية للهجرة نحو الاتحاد الأوروبي.
التقرير لا يكشف فقط عن أرقام وإخفاقات إدارية، بل يسلط الضوء على معضلة مركبة: بين القانون والسياسة والدبلوماسية. فالهجرة، التي طالما كانت تحديا إنسانيا وأمنيا، تحولت اليوم إلى ورقة جيوسياسية معقدة تعيد رسم موازين القوى بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط.