
في عالم سريع التغير، تتكشف أمامنا فجوات عميقة بين ما يُقال وما يُعاش، بين الشعارات الوطنية التي تتوهج على الصفحات وبين حياة الناس اليومية التي غالباً ما تعيش هشاشة واضحة. كثيراً ما تتحول الوطنية إلى مجرد واجهة براقة، تُزيّن الفراغ الاجتماعي وتخفي التفاوتات والاختلالات القائمة. ما يمكن تسميته بـ النرجسية الوطنية يضعنا أمام سؤال محوري: هل الانتماء يعكس حقاً علاقة حقيقية بين الفرد والمجتمع، أم أنه أصبح مجرد شعار يمكن التلذذ به من بعيد، دون أن يُترجم إلى ممارسة يومية حقيقية؟
في هذه السياقات، يبدو اللاانتماء أحياناً كصرخة ضد هذه الصورة الزائفة. فهو ليس رفضاً للوطن، بل رفض لشكل الانتماء الذي يغفل العدالة، ويُغلق الأفق أمام التجربة الإنسانية الحقيقية. حين يتحول الانتماء إلى واجهة للاستعراض، تتضاءل معاني التضامن والمساواة، ويصبح الانتصار الرمزي مجرد زخرفة تخفي الفراغ القيمي.
المواجهة الحقيقية اليوم ليست مع من يرفض الانتماء، بل مع النماذج الوطنية التي تختزل الوطن في شعارات وتنسى أن العدالة والمساواة هما قلب الانتماء الحقيقي. من هنا، يبرز مفهوم الوطنية النقدية، التي تسمح بالاعتراف بالخلل، ومساءلة الذات، وتطوير روابط جماعية تقوم على حقوق الإنسان والكرامة.
الافتتاحية هنا لا تدعو إلى رفض الوطنية، بل إلى إعادة تعريفها: الوطنية ليست شعارات، بل أفعال ملموسة، مسؤوليات يومية، وممارسة مستمرة للعدالة والتضامن. فقط من خلال هذا المسار يمكننا أن نحول الانتماء من رمز استعراضي إلى تجربة حياة، تعكس قيمنا الحقيقية وتمنح الفرد شعوراً حقيقياً بأنه جزء من وطنه، لا مجرد متفرج على مجده الرمزي.