
(كش بريس/التحرير)ـ تأتي تتويج فيلم “البحر البعيد” للمخرج سعيد حميش بن العربي بالجائزة الكبرى في الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، كتتويج لا لعمل فني متقن فحسب، بل لوعي جمالي وإنساني يغامر في تفكيك أسئلة الهوية والمنفى والانتماء داخل سردية بصرية تتقاطع فيها الواقعية الاجتماعية مع الحس الوجودي العميق.
الفيلم، الممتد على مدى 117 دقيقة، يشكل رحلة نفسية وإنسانية لنور، الشاب الذي قاده حلم الهجرة إلى متاهات الغربة، حيث يتحول البحر –في رمزيته المزدوجة– إلى حدّ فاصل بين الحلم والخذلان، بين الانعتاق والضياع. إنه ليس مجرد فضاء مائي، بل فضاء درامي مفتوح على أسئلة الوجود والحرية والاغتراب.
ومن خلال لقاء نور بشخصيتي سيرج ونويمي، تتجسد دينامية الصراع بين الذات والآخر، وبين نظام القيم الأصلية وصخب الحرية الغربية، في بناء درامي محكم تتخلله لحظات من التوتر الهادئ، والبوح الحزين، والانكسار الجمالي.
سيناريو سعيد حميش بن العربي يتجاوز الطرح السردي التقليدي، ليصوغ دراما introspective تستبطن التحولات الوجدانية لشخصية مهاجر يعيش على تخوم الأمل واللاانتماء. الحوار مقتصد ومشحون بالدلالات، والصورة السينمائية، بلقطاتها الطويلة وإيقاعها البصري المتمهل، تشتغل كمعادل موضوعي للتيه الداخلي والبُعد الزمني (1990-2000) الذي يحاصر البطل في تحولات غير متصالحة مع الذات ولا مع الواقع.
من الناحية الجمالية، يوظف المخرج لغة سينمائية حاذقة تقوم على الاقتصاد في الحركة والكثافة في المعنى، مستثمرا فضاءات مرسيليا كخلفية رمزية لاصطدام الثقافات، ومعبّرا عن الانزياح من الحلم الجماعي للهجرة إلى وهم فردي مكلّف. تتناغم الصورة مع الموسيقى والمونتاج في بناء مزاج بصري حزين يكرّس الإحساس بالفقد والحنين.
وإذا كان فيلم “البحر البعيد” قد نال جائزة الإخراج أيضًا، فذلك لأن العمل أظهر نضجًا تقنيًا ومضمونيًا يزاوج بين الحس الاجتماعي والنَفَس الفلسفي، حيث يصبح المهاجر لا مجرد بطل حكائي بل كائنًا تأمليًا يقف على حافة السؤال الوجودي: من أكون بعد أن غادرت؟ وهل يمكن للحنين أن يصنع وطناً موازياً؟
أما الجوائز التي حصدها الفيلم في فئات متعددة، من بينها أفضل دور ثانٍ نسائي (ريم فوكليا) وأفضل دور ثانٍ رجالي (عمر بولعقيربة)، فتؤكد جماعية الإبداع التي استند إليها المشروع، إذ لم يكن العمل متكئًا على نجم بعينه، بل على نَفَسٍ جماعيٍّ مؤمنٍ بالسينما كقوة تعبيرية عن الإنسان المغربي في ترحاله الداخلي والخارجي.
في مقابل ذلك، أظهرت بقية الأفلام المتوجة –من “موفيطا” إلى “في حب تودا” و”المرجا الزرقا”– تنوعًا دالًا في الحساسية السينمائية المغربية، بين الواقعي والاجتماعي، بين الروائي والوثائقي، ما يجعل المهرجان منصة لتجديد الرؤية الجمالية، لا مجرد منافسة على الجوائز.
المهرجان ذاته، في طبعته الخامسة والعشرين، بدا احتفالاً بالنضج الفني للسينما المغربية، حيث تواشجت التجارب الجديدة مع حضور رموز السينما الوطنية، وتوّجت اللحظة بتكريم الفنانة فاطمة عاطف، في اعتراف مستحق بدورها في ترسيخ تقاليد الأداء المغربي.
ختامًا، يمكن القول إن “البحر البعيد” لم يفز فقط لأنه أفضل فيلم في الدورة، بل لأنه لامس جوهر السؤال السينمائي اليوم: كيف نصوّر الإنسان وهو يبحث عن ذاته في مرآة الغربة؟.
هو عمل يجعل البحر لا نهاية، بل بداية جديدة لتأمل علاقة المغربي بالعالم، ولإعادة التفكير في معنى الحرية والانتماء، عبر لغة سينمائية تمزج بين الحسّ الواقعي والبعد التأملي الوجودي، في زمن تتقاطع فيه الهجرة مع الحنين، والهوية مع العدم.



