‏آخر المستجداتأ‏حداث

البيروقراطية الثقافية في المكتبة الوطنية.. حين تتحول خدمة الإيداع إلى اختبار للصبر

في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة المغربية عن تسريع وتيرة الرقمنة الإدارية وتحديث الخدمات العمومية، لا تزال بعض المرافق الثقافية تعيش على إيقاع البيروقراطية القديمة، التي تجعل من أبسط الإجراءات تجربة شاقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يقع في المكتبة الوطنية بالرباط، المؤسسة التي يفترض أن تكون قلب الذاكرة الثقافية المغربية، لكنها أصبحت في نظر عدد من الناشرين والمؤلفين نموذجًا مصغّرًا للإدارة المتكلسة التي تعرقل بدل أن تسهّل.

يشتكي كثير من الناشرين والكتّاب من الصعوبات التي تواجههم عند تقديم طلبات الحصول على رقم إيداع الكتاب، وهو إجراء قانوني ضروري قبل الطبع والنشر. غير أن هذه العملية، التي يفترض أن تكون تقنية وبسيطة، تحولت إلى معاناة يومية بسبب غياب التواصل واللامبالاة. إذ يؤكد العديد منهم أن الموظفة المكلفة باستقبال الطلبات لا ترد على الاتصالات الهاتفية أو الاستفسارات الإلكترونية، ما يضطرهم إلى التنقل شخصيًا إلى مقر المكتبة، في مشهد لا يليق بمؤسسة من المفترض أن تكون واجهة الدولة في تدبير المعرفة والوثيقة الوطنية.

هذا الانقطاع في التواصل الإداري يولّد حالة من الاحتقان، تتطور أحيانًا إلى اللجوء مباشرة إلى المسؤولة الأولى عن المؤسسة لتسوية مشاكل بسيطة. وهو ما يعكس خللاً عميقًا في ثقافة التدبير العمومي، التي ما زالت في كثير من الأحيان تخلط بين السلطة الإدارية والخدمة العمومية. فالمفروض أن تكون علاقة الإدارة بالمرتفق قائمة على الاحترام، والسرعة، والشفافية، لا على التسويف والتجاهل.

إن الخطير في هذه الممارسات لا يقتصر على تعطيل مسار نشر الكتب فقط، بل يمتد ليطال النسيج الثقافي الوطني بأسره. فالإدارة حين تعرقل التواصل مع المبدعين والناشرين، فإنها تساهم، عن قصد أو عن جهل، في تكريس عزلة المثقف وإضعاف دينامية الإنتاج الأدبي والفكري. فالثقافة لا يمكن أن تزدهر في بيئة تُعامل فيها الفكرة كما تُعامل الوثيقة الإدارية.

لقد تجاوزت طريقة اشتغال هذه الإدارة، كما يقول عدد من الناشرين، كل أنظمة التحفيز والاندماج الثقافي التي دعا إليها الخطاب الرسمي. فبدل أن تكون المكتبة الوطنية فضاءً منفتحًا وتفاعليًا يحتضن المبادرات الثقافية ويدعم الفاعلين، تحولت إلى واجهة مغلقة يحكمها منطق الملف والختم والمراسلة.

تحتاج المكتبة الوطنية اليوم إلى مراجعة جذرية لأسلوب تدبيرها وعلاقاتها بالمرتفقين. فالمطلوب ليس فقط إصلاح مسطرة إيداع الكتاب، بل تغيير في الثقافة الإدارية ذاتها، بما يجعل من الخدمة الثقافية نموذجًا في الفعالية والاحترام والشفافية. فحين تعجز مؤسسة بحجم المكتبة الوطنية عن التواصل مع المؤلفين والناشرين، فإن ذلك لا يعني فقط خللاً تقنيًا، بل أزمة في تصور الثقافة كحق عمومي لا كامتياز بيروقراطي.

إن حماية الإبداع الوطني تبدأ من احترام المبدع، وتسهيل ولوجه إلى مؤسساته الثقافية دون عناء أو انتظار. فليس مقبولًا أن تتحول مؤسسة معنية بحفظ ذاكرة المغرب إلى رمز لبطء الإدارة وتراجع روح الخدمة العمومية. التحدي الحقيقي ليس في إصدار بيانات حول الرقمنة، بل في أن يشعر الكاتب والناشر بأن هذه المؤسسة هي فعلًا بيت المعرفة، لا بوابة من ورق موصدة في وجه الكلمة الحرة. في العمق، لا تكمن أزمة البيروقراطية الثقافية في بطء المعاملات أو تعقيد الإجراءات فقط، بل في ذلك الشعور الخفي بالاغتراب الذي يتسلّل إلى نفس المبدع وهو يصطدم بجدار الصمت الإداري. فالمبدع، حين يُعامل كطالب خدمة هامشية، لا كفاعل في بناء الوعي الجمعي، يفقد شيئًا من إيمانه بوطن الكلمة.

إن الكاتب الذي ينتظر رقم إيداع كتابه لأيام دون رد، ليس مجرد مرتفق عالق في طابور رقمي، بل هو ضمير ثقافي معلّق بين رغبة في العطاء وإحساس بالخذلان. ومتى شعر المبدع بأن وطنه لا يصغي إليه، تراجعت الكلمة إلى الهامش، وتحوّل الإبداع إلى عزلة.

في النهاية، ليست المشكلة في موظفة لا ترد على الهاتف، بل في ذهنية مؤسساتية ترى الثقافة كملف إداري لا كرسالة حضارية. وإذا لم نحرر الفعل الثقافي من هذه البيروقراطية الصامتة، فسنجد أنفسنا أمام وطنٍ يملك مكتبة وطنية ضخمة، لكن كتبه تنتظر الإذن بالوجود، ومبدعيه ينتظرون الاعتراف بأنهم جزء من هذا الوجود.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button