
(كش بريس/اتحرير)ـ كشف تقرير صادر عن المعهد المغربي لتحليل السياسات بعنوان “السيمادة الغذائية في المغرب” عن مفارقة حادة في بنية الاقتصاد الفلاحي الوطني؛ إذ رغم النجاحات النسبية التي حققتها الاستراتيجيات الزراعية في بلوغ الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات الحيوانية، فإنها أفرزت في المقابل تعميقاً مقلقاً للتبعية الغذائية، وتوليداً لعبء مزدوج يثقل كاهل الدولة والمجتمع على حد سواء.:
يُعزى هذا الوضع، بحسب التقرير، إلى التحول الليبرالي للاقتصاد المغربي منذ ثمانينيات القرن الماضي، الذي أفضى إلى انخراط واسع في التقسيم الدولي للعمل حتى في القطاعات الغذائية الحساسة، مما جعل المغرب أكثر ارتباطاً بالأسواق الخارجية في توفير مدخلات الإنتاج الأساسية. وهكذا، باتت البلاد تعتمد بشكل كبير على استيراد الحبوب والسكر والذرة وفول الصويا، وهي مواد تُشكل العمود الفقري لسلسلة الغذاء الوطنية.
عبء صحي متزايد:
أفضى هذا الاعتماد إلى تشويه النمط الغذائي الوطني، حيث ارتفع متوسط استهلاك السعرات الحرارية الفارغة إلى ما بين 2400 و3100 سعرة حرارية للفرد يومياً. ويرى التقرير أن هذه الزيادة لا تعكس تحسناً في الأمن الغذائي بقدر ما تجسد اختلالاً في جودة النظام الغذائي، إذ أسهمت الواردات الرخيصة في انتشار السمنة، وتفاقم الأمراض المزمنة غير المعدية كداء السكري والسرطان، إلى جانب نقص حاد في المغذيات الدقيقة مثل الحديد واليود والزنك.
عبء مالي متراكم:
على المستوى المالي، يكشف التقرير عن تكلفة باهظة تتحملها المالية العامة للحفاظ على استقرار أسعار المواد الأساسية المستوردة. ففي عام 2024، بلغت نفقات دعم السكر والدقيق الأبيض حوالي 4.38 و1.34 مليار درهم على التوالي، وهي مبالغ مرشحة للارتفاع في ظل استمرار التقلبات الدولية الناتجة عن التضخم والحرب في أوكرانيا. ويؤكد التقرير أن هذا الدعم، رغم أهميته الاجتماعية، لا يحقق الاستدامة الاقتصادية المنشودة.
مفارقة الإنتاج والاستهلاك:
يشير التقرير إلى مفارقة مركزية في النموذج الفلاحي المغربي: فبينما نجحت البلاد في تأمين الاكتفاء الذاتي من اللحوم والألبان والدواجن، فإن هذا الاكتفاء نفسه قائم على استيراد الأعلاف ومستلزمات الإنتاج الحيواني، مما يجعل الأمن الغذائي رهيناً للأسواق الخارجية. كما أن توجيه الإنتاج نحو التصدير الزراعي جعل القطاع يعتمد بشكل شبه كامل على المدخلات المستوردة، من الطاقة والآلات إلى البذور والري وتقنيات التلقيح الاصطناعي.
استنزاف للموارد وتهميش اجتماعي:
انتقد التقرير أيضاً الطابع التصديري للسياسات الفلاحية الأخيرة، الذي أسهم في استنزاف الموارد المائية وتكريس أنماط تشغيل هشة، دون أن يحقق الحد الأدنى من الاكتفاء الغذائي الذاتي الذي تحافظ عليه حتى الاقتصادات الليبرالية المتقدمة. فبينما تُصدر البلاد منتجات فلاحية عالية القيمة، تبقى رهينة استيراد موادها الغذائية الأساسية.
نحو سيادة غذائية حقيقية:
يدعو التقرير إلى إعادة توجيه النموذج الفلاحي نحو تحقيق السيادة الغذائية باعتبارها أولوية إستراتيجية، من خلال إصلاح منظومة الإنتاج والاستهلاك. وتتضمن التوصيات الرئيسية، تعزيز الأنظمة الفلاحية المتكيفة مع المناخ، ودمج المعارف المحلية في الممارسات الزراعية. والحفاظ على الموارد الطبيعية من تربة ومياه وتنوع بيولوجي. وبناء مخزون غذائي إستراتيجي لتقليص التقلبات السعرية. وتحفيز الاستهلاك الصحي المحلي عبر زيادة الاعتماد على البقوليات وتقنين الأغذية المصنعة. بالإضافة إلى مواءمة السياسات الفلاحية والتجارية لخدمة الأمن الغذائي الوطني بدل الأهداف التصديرية قصيرة المدى.
يُظهر التقرير أن السيادة الغذائية في المغرب ليست مسألة إنتاج فحسب، بل قضية بنيوية تتعلق بنمط النمو الاقتصادي، وتوجهاته الليبرالية، وخياراته الاستراتيجية في توزيع الموارد. فالاكتفاء الظاهري في بعض القطاعات يخفي هشاشة عميقة في صرح الأمن الغذائي الوطني، الذي لن يستقيم إلا بإرساء نموذج فلاحي أكثر عدلاً واستدامة ومرونة في مواجهة تقلبات السوق والمناخ.



