
(كش بريس/ خاص)ـ في ظل تصاعد موجة الاحتجاجات الشبابية التي قادها جيل “زد” في عدد من المدن المغربية، تعود إلى الواجهة أسئلة جوهرية تتعلق بترتيب أولويات الإنفاق العمومي، وبالتحديد: هل يجب أن تتقدم الصحة والتعليم على المونديال؟
فبينما تتجه الحكومة نحو تخصيص ميزانيات ضخمة لتهيئة البنى التحتية الرياضية استعدادًا لاستضافة مونديال 2030، يرى المحتجون أن هذه الاستثمارات الضخمة لا تعكس أولويات المواطن المغربي البسيط الذي يواجه أزمات متراكمة في المستشفيات والمدارس والمرافق العمومية.
المونديال.. حلم بكلفة باهظة
وفقًا لتقارير رسمية وأخرى إعلامية مغربية، فإن كلفة الاستعداد لكأس العالم 2030 قد تصل إلى 120 مليار درهم (حوالي 12 مليار دولار)، تشمل بناء وتحديث الملاعب والبنى التحتية من طرق ومطارات وفنادق. فقد أعلنت وزارة التجهيز والماء أن أشغال تهيئة ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء ستكلف حوالي 2.5 مليار درهم، بينما ستصل كلفة تجديد ملعب مراكش الكبير إلى 1.2 مليار درهم.
أما التحفة المرتقبة، ملعب بنسليمان الجديد، فستبلغ كلفته التقديرية نحو 5 مليارات درهم، ليكون الأكبر في إفريقيا بطاقة استيعابية تناهز 115 ألف متفرج.
وفي إطار الشراكة الثلاثية مع إسبانيا والبرتغال، تلتزم المملكة المغربية ببناء مرافق تليق بمعايير “الفيفا”، وتطوير شبكات النقل السريع بين المدن الكبرى. وقد تم الإعلان عن مشاريع لتوسعة مطارات الدار البيضاء ومراكش وطنجة، بكلفة إضافية تتجاوز 10 مليارات درهم.
التعليم والصحة.. أزمات معلّقة
في المقابل، ما زال قطاعا التعليم والصحة يواجهان أزمات هيكلية عميقة. فبحسب مشروع قانون المالية 2025، بلغ مجموع ميزانية التعليم حوالي 74 مليار درهم، والصحة 34 مليار درهم.
لكنّ هذه الأرقام، رغم ضخامتها الظاهرية، لا تكفي لتغطية الخصاص المزمن في الموارد البشرية والتجهيزات، خاصة في المناطق القروية والنائية.
وتشير معطيات وزارة الصحة إلى أن المغرب يعاني من عجز يفوق 32 ألف طبيب و65 ألف ممرض وتقني.
ويبلغ المعدل الوطني للأطباء 8 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، مقابل 36 طبيبًا في فرنسا مثلًا. كما أن أكثر من 40% من المراكز الصحية العمومية تعمل بتجهيزات تعود إلى أكثر من 20 سنة.
أما في التعليم، فقد أقرّ تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين (2023) بأن نسبة الهدر المدرسي في السلك الإعدادي بلغت 14%، وأن أكثر من 50% من تلاميذ الابتدائي لا يتقنون القراءة بالعربية أو الفرنسية بعد 4 سنوات من الدراسة.
إضافة إلى ذلك، ما تزال آلاف المدارس في القرى تفتقر إلى المرافق الصحية والماء والكهرباء، بينما تتجاوز أقسام المدن الكبرى 50 تلميذًا في القسم الواحد.
احتجاجات الجيل زد.. شعار “الصحة والتعليم قبل المونديال”
ضمن موجة الاحتجاجات الشبابية الأخيرة التي اجتاحت مدن مثل الرباط، الدار البيضاء، طنجة، فاس، أكادير، مراكش وغيرها، رفع المتظاهرون شعارات مباشرة تعبّر عن الإحباط من السياسات الحكومية، كان أبرزها:
“الصحة والتعليم قبل المونديال”
“لا ملاعب في وطن بلا مستشفيات”
ويرى مراقبون أن هذه الشعارات تعبّر عن تحوّل نوعي في وعي الجيل الجديد، الذي لم يعد يطالب فقط بفرص الشغل، بل أيضًا بإعادة ترتيب سلم القيم الوطنية نحو العدالة الاجتماعية.
قراءة في التوازن المالي والسياسي
يُبرر المسؤولون الحكوميون هذا الإنفاق الضخم بكون المونديال يمثل فرصة اقتصادية واستراتيجية كبرى ستنعكس على السياحة والاستثمار وتوفير فرص العمل.
لكن خبراء الاقتصاد يشيرون إلى أن العائد المباشر من مثل هذه التظاهرات يظل محدودًا، مستشهدين بتجارب دولية كجنوب إفريقيا والبرازيل، حيث فاقت كلفة تنظيم المونديال العوائد الاقتصادية الفعلية.
كما يحذر الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي من أن “رهان البنية التحتية الفاخرة دون إصلاح الإنسان والتعليم هو رهان على السراب”.
بين التنمية الرمزية والتنمية الحقيقية
يبقى السؤال المفتوح: هل يمكن لبلد يعاني من اختلالات في الصحة والتعليم أن يحقق تنمية مستدامة عبر كرة القدم؟
ربما يحمل المونديال رمزية وطنية ودبلوماسية مهمة، لكنه لن يعالج هشاشة الخدمات الأساسية التي تمس حياة ملايين المغاربة. فالتنمية، كما قال أمارتيا سن، “ليست في بناء الجدران، بل في تحرير الطاقات البشرية”.
بين وهم الصورة وواقع الإنسان
في العمق، ما يجري اليوم ليس مجرد اختلاف في ترتيب الأولويات، بل هو صراع بين نموذجين للتنمية، أحدهما رمزيّ يلهث خلف الأضواء، يقيس التقدّم بعدد الملاعب وشاشات العرض والقمصان الرسمية؛ والآخر واقعيّ وإنسانيّ، يرى التنمية في كرامة الجسد والعقل والمعرفة. فحين تتحوّل الدولة إلى كيان يسعى لإبهار الخارج أكثر مما يسعى لإصلاح الداخل، تصبح التنمية مشهدًا استعراضيًا لا مشروعًا وطنيًا.
إن المونديال، مهما بلغت هيبته، لا يعوّض سريرًا مفقودًا في مستشفى قروي، ولا يداوي أمًّا تنتظر دواءً لأبنائها، ولا يفتح عقل تلميذ يبحث عن مدرسة لا تُسرب إليه البرد والمطر. وإن ما يطالب به شباب الجيل زد ليس ترفًا فكريًا، بل رغبة في إعادة تعريف الوطن: أن يكون مكانًا صالحًا للحياة، لا مجرد منصة للتسويق الرياضي والسياحي. إذ التنمية الحقيقية ليست في بناء الملاعب بل في بناء الإنسان القادر على الحلم والعمل والتفكير بحرية.
وفي نهاية المطاف، لا تقوم الأمم بالمونديالات، بل بالعقول التي تفكر والضمائر التي لا تبيع كرامة شعوبها مقابل لحظة تصفيق عابرة.