
(كش بريس/التحرير)ـ جاءت كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، محمد عبد النباوي، خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الشبكة الفرانكفونية للمجالس العليا للقضاء بمراكش، لتعيد ترتيب المفاهيم الكبرى للعدالة الحديثة في سياق عالمي متحوّل، حين أكّد أن الاستقلال، والأخلاقيات، والتواصل ليست مجرد شعارات تنظيمية، بل أعمدة تأسيسية لأي منظومة قضائية تبحث عن الشرعية الإنسانية والمصداقية المجتمعية.
في تصريحه، بدا عبد النباوي وكأنه يرسم خريطة طريق لعدالة القرن الواحد والعشرين، حين ربط بين الاستقلال والأخلاق والتواصل في معادلة واحدة لا تستقيم أضلاعها إلا بتكاملها. فالاستقلال، في نظره، يفقد معناه إن لم يكن مؤطَّرًا بالأخلاقيات، لأن القاضي المستقل من دون بوصلةٍ قيمية، يتحوّل إلى كيانٍ منغلق لا إلى سلطة عادلة. أما التواصل، فهو الامتداد الطبيعي لأخلاق العدالة، لأنه يقرّبها من المواطن ويجعلها مرئية وقابلة للفهم والثقة.
وأشار عبد النباوي إلى أن التحديات التي تواجه العدالة اليوم لم تعد مقتصرة على الجوانب التقنية أو المؤسسية، بل أصبحت تلامس البنى القيمية والمجتمعية في ظل الثورة التكنولوجية والعولمة الاقتصادية. ومن هنا، يصبح دور مجالس القضاء أكثر تعقيدًا، لأنها لم تعد فقط ضامنة لحسن سير العدالة، بل مطالبة بإعادة بناء الثقة وإرساء مصداقية مؤسسية تجعل العدالة شريكًا في التنمية لا جهازًا إداريًا جامدًا.
وفي سياق الاحتفاء بالذكرى العاشرة لتأسيس الشبكة الفرانكفونية للمجالس العليا للقضاء، رأى عبد النباوي أن هذه المحطة ليست مجرد وقفة رمزية، بل لحظة لتقييم المسار الجماعي والتفكير في مستقبل العدالة الفرانكفونية. فبعد عشر سنوات من التعاون والتبادل، باتت الشبكة، بحسب تعبيره، “محركًا للإصلاح ونموذجًا للإلهام”، بما تحمله من رصيد من الخبرات المتعددة التي تُغني الحوار القضائي العالمي وتدفع نحو ترسيخ قيم النزاهة والشفافية.
ويشارك في هذا المؤتمر ممثلون عن 14 دولة عضوة وثلاثة مجالس بصفة ملاحظ، إضافة إلى منظمات دولية وخبراء قانونيين، يناقشون أربعة محاور أساسية تمسّ جوهر الوظيفة القضائية: تقييم تجربة الشبكة خلال عقدٍ من الزمن، واستقلال المجالس القضائية، والبعد الأخلاقي في عمل القاضي، ثم علاقة القاضي بالإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، بوصفها فضاءً جديدًا للتعبير والتأثير، لكنه أيضًا ميدان محفوف بمخاطر الانزلاق والمسّ بواجب التحفظ.
إن الخطاب الذي قدّمه عبد النباوي يعبّر عن رؤية متجددة تسعى إلى تحرير العدالة من صمتها المؤسسي، عبر انفتاحها المسؤول على المجتمع، مع الحفاظ على هيبتها واستقلالها. وهو خطاب يذكّر بأن العدالة لا تُبنى فقط بالنصوص والقوانين، بل بالضمائر الحيّة التي تحملها.
فالعدالة الأخلاقية، في جوهرها، ليست سلطة تصدر الأحكام فحسب، بل هي ضمير دولةٍ تُحاكم ذاتها لتصون ثقة مواطنيها. ومن هنا، تتجلّى أهمية الجمع بين الاستقلال، والأخلاق، والتواصل، لا كمفاهيم متجاورة، بل كجسدٍ واحدٍ ينبض بمعنى العدالة الحقّة في زمنٍ تتقاطع فيه السلطة بالقيمة، والقانون بالإنسان.