
ـ من خطة ترمب إلى المقترح السعودي-الفرنسي: القرار 2803 يجمع المتناقضات ـ
(كش بريس/التحرير)ـ جاء القرار 2803 لمجلس الأمن ليعلن عن نقطة تحوّل غير مسبوقة في مسار الصراع في غزة، مقدّماً ما يشبه أول «خريطة طريق دولية» مكتملة العناصر نحو إعادة تشكيل الوضع السياسي والأمني في القطاع. القرار يرحّب بالخطة الشاملة المؤرخة في 29 سبتمبر 2025، ويعطيها شرعية دولية واضحة، معتبراً أنها الإطار المرجعي الجديد لإنهاء النزاع. كما يكرّس دور الولايات المتحدة وقطر ومصر وتركيا في الوصول إلى وقف إطلاق النار، لكنه يذهب أبعد من مجرد تثبيت الهدنة، ليفتح الباب أمام هندسة وضع انتقالي كامل تشرف عليه بنية جديدة تحمل اسم «مجلس السلام»، وهي هيئة انتقالية ذات شخصية قانونية دولية، تُكلّف بإدارة إعادة إعمار غزة ووضع أسس الحكم والإصلاح فيها.
القرار يعكس مقاربة مركّبة تجمع بين المسار الأمني والتنظيم المؤسسي وإعادة بناء السلطة الفلسطينية. فهو يربط صراحة بين تنفيذ برنامج إصلاح السلطة وبين إمكانية عودتها لتولي إدارة القطاع، في إشارة إلى رغبة الدول الراعية في خلق سلطة فاعلة وقادرة على التحكم في الوضع. كما يعيد القرار إحياء مقترحات قديمة مثل خطة ترمب لعام 2020 والمبادرة السعودية-الفرنسية، في محاولة لدمجها في الإطار الجديد، ما يجعل الخطة الشاملة أشبه بتوليفة سياسية تستوعب عناصر متعددة كانت متنافرة في السابق.
أحد أبرز عناصر القرار يتمثل في إنشاء قوة استقرار دولية مؤقتة تُنشر داخل غزة، تعمل تحت قيادة موحدة، وتتعاون مع مصر وإسرائيل وشرطة فلسطينية جديدة يجري تدقيقها وتدريبها. الهدف المعلن هو نزع السلاح الكامل في القطاع، وتدمير البنى العسكرية التابعة للجماعات المسلحة ومنع إعادة بنائها. وهذا البند تحديداً يشير إلى تغيير جوهري في طبيعة السيطرة الأمنية على غزة، إذ سينتقل مركز الثقل من إسرائيل وحدها إلى منظومة متعددة الأطراف، مع بقاء «محيط أمني» إسرائيلي إلى حين اكتمال عملية التأمين.
في السياق نفسه، يحدد القرار شروطاً واضحة لانسحاب الجيش الإسرائيلي، مربوطة بمحطات زمنية تتوافق عليها إسرائيل مع قوة الاستقرار والضامنين والولايات المتحدة. وهو ما يمكن قراءته كمحاولة لإدارة مرحلة ما بعد الحرب بطريقة تدريجية، تضمن لإسرائيل بقاء أدوات الضغط على الأرض إلى أن تتأكد من تفكيك القدرات العسكرية للفصائل.
كما يضفي القرار طابعاً اقتصادياً وتنموياً مهماً على العملية برمتها، إذ يدعو البنك الدولي والمؤسسات المالية إلى تأسيس صندوق ائتماني لإعادة إعمار غزة يخضع لحوكمة المانحين. وهذا يعني أن عملية الإعمار ستكون مشروطة وخاضعة لرقابة دولية صارمة، ما يطرح تحديات كبيرة حول السيادة الفعلية للفلسطينيين في اتخاذ القرارات المتعلقة بإعادة بناء القطاع.
اللافت أيضاً في القرار هو الربط بين التقدم في الإعمار والإصلاح السياسي وبين إمكانية فتح مسار جديد نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية. هذا الربط يُظهر أن المجتمع الدولي، أو على الأقل القوى المؤثرة فيه، بات يرى أن الدولة الفلسطينية ليست نتيجة تفاوض مباشر فقط، بل أيضاً ثمرة عملية إعادة هيكلة شاملة للسلطة والاقتصاد والأمن. وهذا يشكل تحوّلاً في مقاربة القضية الفلسطينية، لكنه قد يثير مخاوف فلسطينية من أن يتحوّل «الحل المرحلي» إلى ترتيب دائم يمنح الضامنين الدوليين سلطة واسعة على الأرض.
من الناحية الجيوسياسية، يبدو القرار 2803 محاولة لإعادة توزيع النفوذ في غزة بعد الحرب، حيث يتم تكريس دور إقليمي لقطر وتركيا ومصر، بينما تحتفظ واشنطن بموقعها المركزي في تحديد الأفق السياسي من خلال إطلاق حوار جديد بين إسرائيل والفلسطينيين. في المقابل، يغيب الدور العربي الجماعي، باستثناء دعم الجامعة العربية للجنة تكنوقراطية محلية تتولى تسيير الشؤون المدنية، وهي خطوة يمكن أن تُقرأ على أنها محاولة لإيجاد نموذج حكم غير سياسي داخل القطاع إلى حين بلورة حل أطول مدى.
بصورة عامة، يعكس القرار محاولة لبناء وضع انتقالي معقد، يُدار دولياً ويُربط بمسار إصلاح فلسطيني شامل، لكن نجاح هذا المشروع يظل رهين قدرة الأطراف على الالتزام، وقدرة القوة الدولية على فرض الأمن دون أن تتحول إلى قوة احتلال جديدة، إضافة إلى مدى قبول الفلسطينيين بنموذج حكم تكنوقراطي يخضع لوصاية مجلس سلام دولي. وبين الطموحات السياسية الكبرى والواقع المتشظي في غزة، يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كان هذا القرار يؤسس فعلاً لمسار نحو الدولة الفلسطينية، أم أنه يكرّس مرحلة جديدة من الإدارة الدولية للصراع دون حلول جذرية.





