‏آخر المستجدات‏أخبار وطنية

المعارض والإعلامي الجزائري وليد كبير: خطاب العرش…سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر خيار ملكي استراتيجي

عشنا اليوم لحظة فارقة من الزمن السياسي والدبلوماسي لمنطقة شمال افريقيا، عندما أطل علينا جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، في خطابه السامي بمناسبة عيد العرش، بكلمة اتسمت بعمق الرؤية وسمو المعاني، خطاب تجاوز الأطر التقليدية في مخاطبة الشعوب، ليُرسخ من جديد مكانته كقائد استثنائي يُقدم نموذجا نادرا في الرصانة السياسية والنُبل الأخلاقي.

لقد تابع الجزائريون، مثلما تابع اشقاءهم المغاربة، فقرات هذا الخطاب الملكي الراقي بكثير من الانتباه والاهتمام، خاصة ما تعلق منها بالعلاقات بين المغرب والجزائر، حيث لم يكن الحديث مجرد تكرار لمواقف دبلوماسية مألوفة، بل جاء محملا برسائل صادقة، ونفس إنساني عميق، واستعداد دائم للحوار من موقع المسؤولية التاريخية والأخلاقية.

في قلب الخطاب.. الجزائر حاضرة بكرامة واحترام

ما يلفت الانتباه بعمق، هو أن الخطاب الملكي لم يخاطب النظام الجزائري أو مؤسساته الرسمية فقط، بل وجه حديثه بصراحة ودفء وكأولوية إلى الشعب الجزائري، وهو ما يحمل دلالة راقية لا تخفى على المتابعين لملف العلاقات بين البلدين. فقد قال جلالة الملك بوضوح وهدوء:

“إن الشعب الجزائري شعب شقيق، تجمعه بالشعب المغربي علاقات إنسانية وتاريخية عريقة، وتربطهما أواصر اللغة والدين، والجغرافيا والمصير المشترك“.

إنه خطاب قائد لا ينساق وراء التشنج، ولا ينجر إلى الحروب الإعلامية، ولا يجعل من الأزمات القائمة ساحة للتراشق، بل يترفع بها إلى مقام النداء الصادق: دعوة إلى طي صفحات الخلاف وتدشين عهد من التعاون والبناء المشترك، في منطقة تمزقها الانقسامات وتُثقلها التحديات.

اليد الممدودة ليست مجرد موقف، بل خيار استراتيجي

ما يعزز قيمة هذا الخطاب، هو أنه لم يأتِ من فراغ ولا من حسابات ظرفية، بل هو امتداد لسلسلة من المبادرات والخطابات السابقة التي عبر فيها جلالة الملك عن إرادة واضحة وصريحة في مد اليد إلى الجزائر، والتأسيس لحوار أخوي بعيد عن منطق الصراع والمزايدات.

وفي هذا السياق، نجد أن العبارة القوية التي قالها الملك:

“حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول”، تختصر فلسفة كاملة في ممارسة السياسة، فلسفة تعتبر أن جوهر العلاقات بين الدول لا ينبغي أن يكون منطلقه النزاع، بل حسن الجوار والتكامل والتاريخ المشترك.

من المهم أن يُفهم هذا الموقف المغربي ليس كتنازل أو ضعف، وإنما كقوة نابعة من ثقة في النفس، ومن وعي عميق بأن وحدة شعوب المنطقة ليست ترفا سياسيا، بل ضرورة جيوسياسية عاجلة في عالم يعيد رسم خرائطه وتحالفاته بسرعة مذهلة.

ولم يكتف الخطاب الملكي بالتعبير عن الإرادة في ترميم العلاقة الجزائرية المغربية، بل تجاوزها إلى التأكيد مجددا على التمسك بالمشروع الإقليمي، الذي ظل لعقود رهينة الجمود والانتظارات. لقد قالها جلالة الملك بصراحة: “نؤكد تمسكنابالاتحاد المغاربي، واثقين بأنه لن يكون بدون انخراط المغرب والجزائر، مع باقي الدول الشقيقة.”

إنها دعوة تستحق أن تُسجل بأحرف من ذهب في سجل الخطابات السياسية الكبرى في منطقتنا. دعوة لا تنبع من حسابات سياسية ضيقة، بل من إيمان بأن مشروع التكامل بين دول المنطقة هو وحده الكفيل بتحقيق التنمية الجماعية، وضمان السيادة الاقتصادية، ومواجهة التحديات الأمنية والبيئية والطاقية التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم.

عندما يتحدث جلالة الملك بلغة الحكمة والعدل في قضية الصحراء

وإذا كان الشق المتعلق بالعلاقات بين الجزائر والمغرب من الخطاب قد حمل نداء أخويا عابرا للحدود، فإن الشق المتعلق بقضية الصحراء المغربية لم يخل من الرسائل القوية المتوازنة. فقد عبر جلالة الملك عن فخره المشروع بالدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي التي تقترحها المملكة كحل عادل، واقعي، وذي مصداقية للنزاع المفتعل حول الصحراء.

وقد كانت الإشارة إلى مواقف المملكة المتحدة والبرتغال تأكيدا إضافيا على أن منطق المبادرة المغربية بات يحظى بتقدير القوى الدولية الكبرى، بعيدا عن منطق الشعارات الفارغة أو الاصطفافات الإيديولوجية.

ومع ذلك، فإن الأهم في هذا الجزء من الخطاب، هو دعوة جلالة الملك إلى حل توافقي “لا غالب فيه ولا مغلوب“. وهذه العبارة، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، إلا أنها تحمل من الرصانة السياسية ما يجعل منها مخرجا مشرفا لكل الأطراف. إنها لغة رجل الدولة الذي يعرف كيف يحافظ على ثوابت بلاده، دون أن يغلق الباب أمام منطق الحلول الواقعية، التي تراعي مصالح جميع الأطراف وتحفظ ماء وجه الجميع.

كلمة جلالة الملك ترتقي فوق الخلاف وتُراهن على المستقبل

بكل مسؤولية وتجرد، لا يسعني كإعلامي جزائري إلا أن أثمن مضمون هذا الخطاب الملكي بما يستحقه من احترام وتقدير، لما حمله من مضامين راقية تعكس شخصية قائد يؤمن بالسلم، ويؤمن بوحدة شعوب المنطقة، ويعمل من أجل استقرار دائم لا تقطعه عواصف الخلافات العابرة.

إننا في الجزائر، لا يمكن أن نظل أسرى الماضي، ولا يجوز أن نُضيع على أجيالنا القادمة فرص النهوض الجماعي، فقط لأن بعض الملفات بقيت مفتوحة لعقود. والمغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس يمد اليد مرة بعد مرة، ولا يمكن لصوت العقل في الجزائر أن يظل صامتا أمام نداء الأخوة والمصير المشترك.

لقد آن الأوان لكي نُعيد النظر في المسارات المسدودة، ونستثمر في أفق إقليمي جديد، نبدأ فيه من المشترك لا من المختلف، ونؤسس فيه لغد يُبنى بالإرادة لا بالحسابات العقيمة.

خطاب العرش لهذا العام لم يكن مجرد خطاب ملكي، بل كان بمثابة دعوة تاريخية إلى تجاوز الجمود السياسي، واستئناف ما انقطع من حوار بين البلدين الشقيقين. هو خطاب فيه ثبات العقل ورحابة القلب، وفيه دعوة للمصالحة الشجاعة دون أن تُختزل السيادة أو تُنتقص الكرامة.

ولعل التاريخ سينصف، ذات يوم، القادة الذين آمنوا بأن العلاقات بين الشعوب لا يجب أن تُصاغ في غرف الأزمات، بل في قلوب الشرفاء الذين يترفعون عن الضغائن، ويكتبون فصولا جديدة من التعاون، والتكامل، والبناء المشترك.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button