‏آخر المستجداتالمجتمع

المقاولات الصغيرة جداً في المغرب: بين هشاشة البنية وصعوبة الاندماج في الاقتصاد المنتج

(كش بريس/التحرير)ـ

تُعد المقاولات الصغيرة جداً والصغرى العمود الفقري للنسيج الاقتصادي الوطني، غير أن ثقل حضورها الكمي لا يقابله وزن نوعي في مؤشرات القيمة المضافة أو المردودية الإنتاجية.

فبحسب دراسة حديثة صادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بطلب من مجلس المستشارين، تمثل هذه الفئة أكثر من 98% من المقاولات المهيكلة وتُؤمّن أزيد من نصف مناصب الشغل في القطاع الخاص، ومع ذلك يظل أثرها الاقتصادي ضعيفاً، ومحدود الإسهام في دينامية النمو والتنمية.

هذه المفارقة بين الوفرة العددية والضعف البنيوي تكشف أن المنظومة المقاولاتية المغربية ما تزال تواجه أعطاباً هيكلية في مجالات التمويل، والولوج إلى الأسواق، وتدبير رأس المال البشري، وهو ما يعوق تحولها إلى رافعة فعلية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ملامح الأزمة البنيوية:

يرصد المجلس عدداً من المؤشرات الدالة على هشاشة هذه الفئة من المقاولات:

ضعف الانتقال التصاعدي: فخلال الفترة 2017–2022، لم تتجاوز نسبة المقاولات متناهية الصغر التي تطورت إلى فئة أعلى 0.2% فقط، وهو رقم يعكس غياب مسار نمو طبيعي داخل السوق.

ارتفاع حالات التعثر: سنة 2024 لوحدها شهدت 15.658 حالة إفلاس، غالبيتها الساحقة تخص المقاولات الصغيرة جداً، ما يعكس هشاشة بنيتها التمويلية وقدرتها على الصمود في مواجهة الصدمات الاقتصادية.

قصور داخلي متعدّد: يشمل ضعف التأهيل البشري والتدبير الإداري، محدودية الابتكار والتخطيط، وولوج اضطراري إلى عالم المقاولة بدافع الحاجة لا بدافع روح المبادرة.

بهذا المعنى، فإن الفاعل المقاولاتي الصغير لا يتحرك ضمن منطق تنافسي أو إنتاجي حقيقي، بل غالباً ما يُدفع إلى المقاولة كآلية للبقاء الاقتصادي، وهو ما يفرغها من بعدها الإبداعي والابتكاري.

قيود خارجية تُفاقم الوضع:

تُضاف إلى الهشاشة الداخلية عوائق بنيوية خارجية تقيد نمو المقاولات الصغيرة، منها: صعوبة الولوج إلى الأسواق (الصفقات العمومية، التصدير، الشراكات مع المقاولات الكبرى). ومنافسة القطاع غير المهيكل الذي يفرض واقعاً اقتصادياً غير متكافئ، يضعف تنافسية الفاعلين المهيكلين. وتعقيد المساطر الإدارية والجبائية رغم جهود الرقمنة، مما يجعل الكلفة الإدارية والضريبية مرتفعة قياساً إلى الهامش الربحي المحدود. وإطالة آجال الأداء، وهو عامل ضاغط على السيولة المالية للمقاولات الصغيرة، ويحد من استدامتها التشغيلية.

أما الإطار القانوني المنظم، فيظل متجاوزاً لخصوصيات هذه الفئة، إذ لم تُترجم بعد الإصلاحات المعلنة إلى سياسة متكاملة تراعي تمايز الحاجات حسب الحجم والمجال الترابي.

نحو رؤية مؤسساتية بديلة:

انطلاقاً من تشخيصه، يقترح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حزمة من التوصيات المعيارية لإعادة بناء المنظومة المقاولاتية على أسس أكثر انسجاماً وفعالية، أهمها:

إرساء إطار موحد للدعم من خلال اعتماد قانون خاص بالمقاولات الصغيرة (Small Business Act) يضمن تنسيق وتكامل برامج المواكبة والتمويل.

إحداث هيئة وطنية مستقلة لتتبع وتقييم السياسات العمومية الموجهة لهذه الفئة، مع تنزيل آليات الدعم جهوياً وفق خرائط دقيقة للاحتياجات الترابية.

تحسين البيئة الضريبية عبر تقييم أثر الإصلاح الجبائي الحالي وتخفيف العبء الضريبي لتعزيز الثقة بين الإدارة والمقاولات.

تسريع الرقمنة ومكافحة الفساد بما يضمن شفافية المعاملات وتكافؤ الفرص، خصوصاً في مجال الصفقات العمومية.

تحسين الولوج إلى التمويل وتفعيل النظام الجديد للدعم المنصوص عليه في الميثاق الوطني للاستثمار، بما يتلاءم مع خصوصيات المقاولات الصغيرة جداً والناشئة.

نحو تحول هيكلي في منطق المواكبة:

تكشف التوصيات عن ضرورة الانتقال من منطق المساعدة الظرفية إلى منطق الإدماج البنيوي، أي اعتبار المقاولة الصغيرة ليس كياناً هشاً يحتاج إلى إنقاذ، بل فاعلًا تنموياً محلياً يجب تمكينه من أدوات الاستدامة: التمويل، التكوين، الانفتاح على الأسواق، والتشبيك الاقتصادي.

كما أن استدامة هذه المقاولات مشروطة بإعادة بناء الثقافة المقاولاتية ذاتها: من روح الاضطرار إلى روح المبادرة والابتكار، ومن البقاء في الهامش إلى الانخراط في سلاسل القيمة الوطنية والدولية.

تُبرز دراسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن النسيج المقاولاتي المغربي يعيش ازدواجية بنيوية: كثافة عددية في القاعدة، وضعف وظيفي في الأداء.

ولكسر هذه المفارقة، لا بد من مقاربة شمولية تدمج بين الإصلاح القانوني والجبائي، والدعم المالي وغير المالي، وتربط التنمية الاقتصادية بالعدالة المجالية.

ذلك أن مستقبل الاستثمار في المغرب لن يُقاس بحجم المشاريع الكبرى فقط، بل بقدرة المقاولة الصغرى جداً على أن تتحول من مجرد وحدة هشّة إلى خليّة إنتاجية فاعلة في الاقتصاد الوطني.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button