
يكتبه مدير النشر: مصطفى غلمان
في صباحٍ مراكشيٍّ مشبعٍ بالضوء والعراقة، تُشرق المدينة الحمراء كما لو أنها قصيدة تتنفس التاريخ وتكتب الحاضر بلغة الطين والعطر والإنسان. صباحٌ يألف فيه المرء النظر إلى القلوب التي تفتح شهيته للنضال الثقافي، وتوقظ فيه الحنين إلى تلك الأرواح التي جعلت من الثقافة التزامًا ومن الجمال عقيدة. في هذا الفضاء الموشوم بالذاكرة والدهشة، يطلّ الأستاذ عبد اللطيف آيت بنعبد الله، لا كاسمٍ عابر في سجلّ الفعل الثقافي، بل كـ رمزٍ متجذر في كينونة مراكش، حارسٍ أمينٍ لروحها، وصوتٍ عارفٍ بصيرورتها.
مراكش ككائن حي
من يتأمل مراكش، لا يراها مدينة فقط، بل كائنًا حيًّا ينبض بعبق الحضارة المغربية، بمآذنها الشامخة، وأزقتها الضيقة، وأبوابها التي تُفضي إلى السرّ والسكينة. هنا يتقاطع التراث بالحداثة، وتتحاور الذاكرة مع الحاضر في نسيجٍ لا يُشبه إلا ذاته.
ولأن المدن لا تُحيا إلا بأبنائها، فقد كان للأستاذ عبد اللطيف آيت بنعبد الله نصيب وافر في صون هوية مراكش الثقافية والمعمارية، من خلال رؤيته التي تجمع بين الحس الجمالي والوعي التاريخي، بين الوفاء للماضي والانفتاح على المستقبل.
المثقف كضمير للمدينة
ليس المثقف عند عبد اللطيف آيت بنعبد الله مجرد حامل للمعرفة، بل هو فاعل رمزيّ واجتماعيّ، يعيد للثقافة مكانتها كقوة اقتراح وبناء. لقد آمن أن الثقافة ليست زينة تُعلّق على جدران المدن، بل هي جدارها الحقيقي، وأن المعمار ليس حجارة صماء، بل ذاكرة ناطقة تحمل بصمات الأجيال.
في حضوره، تستعيد مراكش معناها الأصيل: مدينة الفكر والحرف، وموئل الفنانين والحرفيين، وساحة اللقاء بين المحلي والإنساني. إنه من أولئك القلائل الذين يحملون في صمتهم ضجيج التاريخ، وفي تواضعهم كبرياء الأمكنة.
من الثقافة إلى المواطنة الجمالية
النضال الثقافي الذي يجسّده آيت بنعبد الله ليس مجرد دفاع عن المعالم أو التراث، بل هو دفاع عن حق الإنسان في الجمال والكرامة.
إنه يرى أن حفظ الذاكرة ليس عملًا متحفيًا جامدًا، بل فعلًا أخلاقيًا وحضاريًا، يعيد وصل ما انقطع بين الإنسان ومكانه، بين المواطن ومدينته. فالثقافة عنده ليست “ترفًا”، بل هي جوهر المواطنة الحديثة التي تحترم الإنسان في كيانه المادي والرمزي معًا.
مراكش.. القصيدة التي لا تُختتم
حين تتأمل مراكش اليوم، في ضوء التحولات السريعة والهيمنة العمرانية، تدرك قيمة أولئك الذين يحمون روحها من التبديد. فالأستاذ آيت بنعبد الله يشبه شجرة نخيلٍ مراكشية، تضرب جذورها في عمق التاريخ وتظلّل الحاضر بظلّها.
هو المثقف الذي يمارس الوصاية النبيلة على الذاكرة، لا بالمنع، بل بالتجديد؛ لا بالماضي المغلق، بل بالمستقبل الذي لا يُفرّط في الجذور.
خاتمة
يبقى عبد اللطيف آيت بنعبد الله ضمير مراكش الثقافيّ، وجسرها نحو الذات والمستقبل. منه نتعلم أن حماية المدينة ليست مسألة ترميمٍ أو تزيينٍ، بل فعل حبٍّ ومعرفةٍ ومسؤولية. فالمثقف الحقيقي لا يسكن المدينة فحسب، بل يسكنها فكرًا وروحًا، ويحرسها كما يُحرس الشعر من النسيان.
إنه واحد من أولئك الذين يُبقيهم التاريخ في قلبه، لا في هوامشه، لأنهم اختاروا أن يجعلوا من الثقافة وطنًا، ومن الجمال قدرًا، ومن مراكش وعدًا متجددًا بالحياة.





