‏آخر المستجداتفنون وثقافة

“تأملات قرآنية” يكتبها د. م علي الخامري( بعض مظان الإيمان والكفر في القرآن الكريم)

الحلقة الخامسة والأخيرة :

توطئة :

كما كان الدَّأَب ، وصارت العادة في استقبال شهر الله الفضيل رمضان الكريم ، وكما جرت أمور السلف الصالح حين كانوا يتركون كل العلوم والمعارف ويلتفتون إلى كتاب الله العزيز قراءة وتفسيرا ومدارسة يسعدني أن أحيي في نفسي ، وفي كل من يود الانضمام هذا المنهج الحسن ، وألتفت بدوري إلى مائدة القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل ، وأطل من خلالها على ما استقر في النفس ، ونُسِجَت معه علائق القراءة والتفكر والتأمل عبر مجموعة من وقفات تَدَبُّرِ آي الذكر الحكيم ، وأتمنى من العلي في علاه أن يوفقنا ، وينفعنا ، وينفع بنا ، ويثيبنا على أعمالنا ، ويجعلنا من أهل القرآن ومن خدامه الغيورين عليه بالعلم والمعرفة ، والمنافحين عنه بالعمل والإنجاز ، وإيصال الآثار الحسن إلى كل قلب مومن متعطش للاستفادة والاستزادة من معانيه وأسلوبه ، ودُرَرِه ، وبراعة سَبْكِه ، وسلاسة هديه ، وقوة أفكاره ، وبلاغة أحكامه وحِكَمِه .

الحلقة الخامسة والأخيرة : نموذج من مواجهة المُجَاوَرَة بين الإيمان والكفر كما وردت في سورة غافر

انطلقت سورة غافر من تحديد ماهية الله تعالى ، وعلاقته بعباده من جهة الاعتقاد والعمل ، فقد افتتحت بإثبات مجموعة من الأوصاف المساندة والمتداخلة في التحديد لمعاني الإيمان والكفر ، فالله تعالى غافر للذنب ، قابل للتوب ولكنه أيضا شديد العقاب ، وإليه تنتهي كل مصائر المخلوقات ، بالإضافة إلى أن اسم السورة : ( غافر ) له دلالات التفريق بين مفاهيم الذنب الجبلي ، والذنب المكتسب الذي يخرج الآدمي عن جادة الصواب ، ويجعله في مواجهة علنية ودائمة مع ربه ، فالذنب المحدد ، والخالي من وصمة التمرد على القوانين الإلهية المشاهدة هو ذنب مقبول ، وقابل للمحو على عكس الذنوب المتجبرة والمتطاولة على معاني الربوبية ، وتريد أن تحرف الحقائق لدواع بشرية محضة… فهنا يكمن الخلل ، ويقع الخطأ الذي يستوجب العقاب ، كما سنرى .

مواجهة الإيمان مع الكفر في سورة غافر تميزت بمراحلها ومواقفها المتنوعة ، واتسمت بالقرب والندية ، وجرت فيها أحاديث مباشرة ، وحوارات متنوعة وعامرة بالمعطيات والدلائل الدالة على المنحيين معا بصيغ يغلب عليها التقابل الواضح على مستوى الأشخاص والأفعال ، ويمكن للقارئ أن يتتبع أحداثها ، ويجمع شتاتها في مرحلتين كبيرتين هما :

1 – مرحلة تقابل المواقف على صعيد الأشخاص : تجري المواقف ضمن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون ، ويتولى الحديث عن الإيمان في وسط حمأة الكفر هاته رجل مومن من آل فرعون ، ورد اسمه هكذا منكرا وموصوفا ولكن فعله كان قويا ومجهورا ، يقول الله تعالى في الآيات : 26 – 27 – 28 : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وَأَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لّا يُومِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُّومِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .

انطلاقا من هذه الآيات يُرتَسم المشهد عبر تقابل طويل بين الإيمان والكفر ، كل طرف فيه يحاول أن يدافع عن موقفه ، ويدلي بحججه على أفعاله ، وإن كانت الآيات المتقدمة عن الثلاث المذكورة قد بسطت القول على القدرة الإلهية المتفردة في كل شيء ، ومع ذلك لم يؤخذ بها من طرف من يدعي الألوهية ، ويجادل في التعمية عن الحق وحقائق الكون الملاحظة وعلى كل المستويات .

2 – مرحلة الإدلاء بالحجج : وهي طويلة ، وتتضمن نوعين من الحجج ، النوع الأول هو ما يدلي به المومنون ، وفيه تفاصيل عن معنى المُلك والنصر ، ونهاية كل حي ومصيره ، مع التذكير بوقائع الأمم السابقة المرتبطة بمسألة الإيمان والكفر ، يقول الله تعالى في الآيات من : 29 وإلى : 33 : ( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .

أما النوع الثاني الدال على الكفر فهو ضيق ، ومرتبط بمصالح الأقوياء الذين يريدون الاستحواذ والتصدر ، وادِّعاءَ ما ليس في مقدورهم ، ولا يدخل في حقيقتهم الخَلْقِية ، أو أفعالهم المشابهة لكل البشر في الثوابت والمتغيرات ، وقد مر بنا قول فرعون فيما تقدم : ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ونضيف إليه ما ورد في الآيتين : 36 – 37 : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ) .

وبموازاة الحديث عن تقابل المواقف ، والإدلاء بالحجج كما لاحظنا فيما سبق هناك تتبع جديد ومفصل لمسألة الإيمان والكفر تُكَلِّم فيه بإسهاب كبير ، ونُوِّعت فيها الأماكن والأزمان ، والأشخاص والأفعال ، وأضحت معه مضامين سورة غافر حافلة بالأبرز على صعيد التحليل ودلائل الموضوع ، بمميزات عديدة ، تخص القول والعقل والأسلوب ، وحتى يتمكن القراء الكرام من حصر أماكنها ، واستيعاب محتوياتها سأحاول أن أقف منها على ثلاث مظاهر كبيرة ومتقابلة :

المظهر الأول يخص الحديث عن المآل الخاص بأهل الإيمان والكفر بطريقة صريحة ومشاهدة ، وقد ورد في موضعين : الموضع الأول هو ما احتوته الآيات : 47 – 48 – 49 – 50 : ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) .

والموضع الثاني كان أكثر إفصاحا من الأول من ناحية التسميات ووصف الأفعال ، وتحديد المآل النهائي ، يقول الله تعالى في الآيات من : 70 وإلى : 76 : ( الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

والمظهر الثاني هو الموضوع الأبرز دائما في مسألة الإيمان والكفر ، ويتعلق بأسلوب المحاججة ودروبه العقلية المختلفة التي تدعو إلى الاعتبار والتفكر الصحيحين ، وهنا لا بد من التمييز بين ما يلي :

ا – الحكم اللاصق بأصحاب الاحتجاج المبني على النية الفاسدة ، والقصد الذي لم يستطعه….ولن يستطعه أي إنسان ، يقول الله تعالى في الآية : 4 : ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) .

ب – اعتبار الاحتجاج السلبي مرضا ، وبتسمية القرآن الكريم كِبرا كما ورد في الآية : 56 : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

ج – التحذير من مآل الكفر المشؤوم ، وهو مآل أبدي لا محالة ، تسبب في أضرار بليغة للإنسان وعلى طول وجوده ، فقد حرمه من نعمة الاطمئنان ، والانسجام مع نفسه ، ومع تجليات الكون المختلفة ، وقد نعته القرآن الكريم بالكبر في الآية : 35 ، ووصفه بالمقت الكبير : (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) كما أدى إلى بروز نبرة من التحدي المصاحبة للإنسان في وجوده ، ولعله دلالة قوية على طبيعة الإنسان الجبلية ، ويمكن أن نتخذه دليلا على استمرار الحياة بوجهين متقابلين ومركبين من الإيمان والكفر ، يقول الله تعالى في الآية : 69 : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ) .

إنه تحدي لمن يعيش حياته في ملكوت الله تعالى بخيراته وتجلياته الملاحظة ، ثم يحاول أن يتنكر ويتكبر ، ويجعل من نفسه ندا لخالقه ، ومزوده بالعقل الذي يستخدمه استخدامات سلبية ومعوجة ، فهل هناك كائن أغبى في الكون من هذا الذي يتسمى بالإنسان ، وتجري عليه قوانين الحياة ، فلا يستطيع ردها ، ومع ذلك يتطاول على ربه في عليائه ، وأفعاله الدالة على ألوهيته المطلقة ؟ ! .

المظهر الثالث وسأخصصه للحديث عن معاني رب العزة كما صورتها لنا سورة غافر .

وكما تنوع الحديث عن الكفر وأهله من ناحية الوصف ، والحكم ، والدوافع والمآل ، سيتنوع القول كذلك عن الله تعالى في ماهيته ، وصنائعه ، وهديه .

فالماهية تنوعت في دلالاتها على الله تعالى ما بين التعريف بالأفعال الإلهية المشاهدة والملتصقة بالإنسان كخلق الليل والنهار والأرض والسماء ، وما بين التعريض بالمخالفين الذين يتخذون من الكذب والجحود سبيلا للضلالة والغواية ، يقول الله تعالى عن الصنف الأول في نسقين قريبين ما بين الآيات : من 60 إلى : 62 ، بالإضافة إلى الآيات : 64 – 65 – 67 – 68 : ( اَ۬للَّهُ اُ۬لذِے جَعَلَ لَكُمُ اُ۬ليْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراًۖ اِنَّ اَ۬للَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَي اَ۬لنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ اَ۬لنَّاسِ لَا يَشْكُرُونَۖ ذَٰلِكُمُ اُ۬للَّهُ رَبُّكُمْ خَٰلِقُ كُلِّ شَےْءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنّ۪يٰ تُوفَكُونَۖ ) ( اَ۬للَّهُ اُ۬لذِے جَعَلَ لَكُمُ اُ۬لَارْضَ قَرَاراٗ وَالسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ اَ۬لطَّيِّبَٰتِۖ ذَٰلِكُمُ اُ۬للَّهُ رَبُّكُمْۖ فَتَبَٰرَكَ اَ۬للَّهُ رَبُّ اُ۬لْعَٰلَمِينَۖ هُوَ اَ۬لْحَيُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اُ۬لدِّينَۖ اَ۬لْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَۖ ) ( هُوَ اَ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاٗ ثُمَّ لِتَبْلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاٗۖ وَمِنكُم مَّنْ يُّتَوَفّ۪يٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوٓاْ أَجَلاٗ مُّسَمّيٗ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَۖ هُوَ اَ۬لذِے يُحْيِۦ وَيُمِيتُۖ فَإِذَا قَض۪يٰٓ أَمْراٗ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُۖ ) .

أما التعريض بذوي الكذب والجحود فقد جاء ضمن السياق السابق حيث فَصَلَت الإشارة إليه في الآية : 63 ما بين الآيات المتقدمة ، وكان مقتضبا ، ومؤكدا على وجود الكفر وأهله على مسرح الوجود بصفة دائمة ، يقول الله تعالى : ( كَذَٰلِكَ يُوفَكُ اُ۬لذِينَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِ اِ۬للَّهِ يَجْحَدُونَۖ ) .

وسنرى إن نحن تتبعنا السياق المذكور أن الله تعالى سَيُعَرِّفُ بنفسه في منحى ثان بما أبدع وصنع ، فهو يقول في الآية : 57 : ( لَخَلْقُ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِ۬لنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ اَ۬لنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَۖ ) ويقول في الآية : 59 : ( إِنَّ اَ۬لسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ اَ۬لنَّاسِ لَا يُومِنُونَۖ ) .

وإزاء كل هذه الحقائق كان لا بد من تتمة التعريف بالألوهية الحقة عبر سبيل ثالث ، يتحدث عن مسألة الهدي والإيمان ، وهي من أكبر نعم الخالق على المخلوق ، بل هي الوسيلة التي تربط ما بين العبد وربه بِعُرى مختلفة ومتنوعة تنوع ملكات الإنسان في التصور والإدراك ، يقول الله تعالى في الآية : 58 متخذا من الإبصار والعَمَى مُتَّكَأ للتبيين والتوضيح : ( وَمَا يَسْتَوِے اِ۬لَاعْم۪يٰ وَالْبَصِيرُ وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَلَا اَ۬لْمُسِےٓءُۖ قَلِيلاٗ مَّا يَتَذَكَّرُونَۖ ) .
ويقول في الآية : 60 داعيا عبده إلى دعائه والتعلق به ، إذ لا طريق له للنجاة سوى هذا الطريق : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ اُ۟دْعُونِےٓ أَسْتَجِبْ لَكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬لذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِے سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَۖ ) .

وكم كان الختم رائعا في سلسلة التعريف بالذات الإلهية حين تمت فيه الإشارة إلى تحقيق مبدأ الإيمان في الحياة لتتم الحلقة الوجودية التي تضم الخالق الواهب سبحانه وجموع عباده سواء كانوا من أهل الإيمان أم من أهل الكفر ، يقول الله تعالى في الآية : 66 : ( قُلِ اِنِّے نُهِيتُ أَنَ اَعْبُدَ اَ۬لذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ اَ۬لْبَيِّنَٰتُ مِن رَّبِّے وَأُمِرْتُ أَنُ ا۟سْلِمَ لِرَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَۖ ) .

ومما يلفت انتباهي في سورة غافر إلى جانب كل ما ذكر أنها السورة التي أقامت مضمونها على صيغة التقابل وبجميع أنواع التجاور البعيد والمتوسط والقريب ، مُعتَمِدة على الحقائق العلمية ، وعلى مخاطبة العقل والنفس بالأدلة الواضحة والموضحة للحقائق المحسوسة والمُدرَكة بوسائط اللغة والفكر والتَمَثُّل الإيجابي بُغْيَةَ أن يصبح الإنسان قادرا على التمييز بين الصحيح والغلط ، فلن تجد محتوى خالصا وخاصا بأهل الإيمان أوالكفر ، وإنما هو مزيج مختلط ومتداخل على مستوى الصور والأساليب كتداخل الأمرين على صعيد الواقع والوقائع الوجودية المشاهدة في كل معالم التاريخ العام للإنسان ، يقول الله تعالى مما يدخل في التدليل على ذلك وانطلاقا من الآية : 6 : ( وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَٰتُ رَبِّكَ عَلَي اَ۬لذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمُۥٓ أَصْحَٰبُ اُ۬لنّ۪ارِۖ اِ۬لذِينَ يَحْمِلُونَ اَ۬لْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُومِنُونَ بِهِۦ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَےْءٖ رَّحْمَةٗ وَعِلْماٗ فَاغْفِرْ لِلذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ اَ۬لْجَحِيمِۖ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّٰتِ عَدْنٍ اِ۬لتِے وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنَ اٰبَآئِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمُۥٓۖ إِنَّكَ أَنتَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْحَكِيمُۖ وَقِهِمُ اُ۬لسَّيِّـَٔاتِۖ وَمَن تَقِ اِ۬لسَّيِّـَٔاتِ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمْتَهُۥۖ وَذَٰلِكَ هُوَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ إِنَّ اَ۬لذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اُ۬للَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمُۥٓ أَنفُسَكُمُۥٓ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَي اَ۬لِايمَٰنِ فَتَكْفُرُونَۖ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اَ۪ثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اَ۪ثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلِ اِلَيٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖۖ ذَٰلِكُم بِأَنَّهُۥٓ إِذَا دُعِيَ اَ۬للَّهُ وَحْدَهُۥ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُّشْرَكْ بِهِۦ تُومِنُواْۖ فَالْحُكْمُ لِلهِ اِ۬لْعَلِيِّ اِ۬لْكَبِيرِۖ ) .

فهل هناك من مسوغ باق ومشروع لوجود الكفر في حياة الإنسان ؟ لا أظن ، فمن ناحية الفطرة السليمة والعقل المتزن والمنصف انتفت كل الأسباب والادعاءات ومهما تسلحت به من الإغراءات والحجج الواهية…ومع ذلك سيبقى ما هو دال على جوانب الإنسان العليلة من جحود وَكِبر وغيرهما يدفعه إلى ممارسة حماقاته الفظيعة التي يرفضها الوجود في صوره وتجلياته ووقائعه المستمرة بتفاصيل يقينية واحدة ، لم تشبها شائبة النسيان والأخطاء ، ولم تعرف خلطا أو استثناء ، أو خرقا لقواعدها وضوابطها الصريحة المشاهدة ولو ممن ادعوا الكفر ، وجاهروا به في حياتهم ، ونصبوا أنفسهم مدافعين عنه بوسائلهم المختلة وغير المفيدة……

فكفى بكل ذلك دليلا لمن يريد التفكر الصحيح والنزيه ، ولمن يسعى إلى الاعتبار الإيجابي المتجاوب مع كل الحقائق الملاحظة ، وفي مقدمتها حقيقة هذا الكائن الذي يتسمى إنسانا .

إلى اللقاء في مواضيع تأملات جديدة وقادمة بحول الله

‏مقالات ذات صلة

Back to top button