‏آخر المستجداتلحظة تفكير

توفيق بوعشرين: أين أوجلان الصحراوي؟

في لقطة درامية وسينمائية، تتقدّم نساء يساريات ثوريات ماركسيات، جميلات والدمع واقف في عيونهن، وهنّ يلقين بأسلحتهن الخفيفة وسط النيران في سفوح جبال كردستان، تعبيرًا عن تخلي حزب العمال الكردستاني عن الخيار العسكري في مواجهة تركيا لانتزاع حق الانفصال وتقرير المصير والاستقلال بدولة للشعب الكردي.

جنح الحزب الثوري نحو السلم ونحو السياسة ، بعد أكثر من أربعين سنة من حمل السلاح والاعتصام بالجبال، وبعد نقاشات وحوارات طويلة ومعقدة مع النظام التركي، استجاب لنداء الزعيم التاريخيّ للأكراد، عبد الله أوجلان، المسجون منذ 26 سنة في سجن مشدد الحراسة في جزيرة…

قيادة حزب العمال الكردستاني التاريخية دعت قبل أشهر من سجنها إلى التخلي عن السلاح، وحل التنظيم العسكري، والتحول الكلي إلى النضال السياسي من داخل تركيا تحت شعار “المزيد من الحكم الذاتي”.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال عن هذا القرار التاريخي، الذي ينهي حربًا قاسية خاضتها أنقرة مع ثوار الجبل في العراق وسوريا وإيران: “هذه صفحة جديدة فُتحت في علاقة تركيا بمواطنيها الأكراد”.

على مدار أربعين سنة، خلفت المواجهات المسلحة بين الثوار الأكراد والجيش التركي أكثر من 40 ألف قتيل من الطرفين.

كان اليمين التركي يستخسر على الأكراد مجرد تسميتهم بالقومية التي ينتمون إليها. كانوا يطلقون عليهم “أتراك الجبل”، ولم تكن لغتهم وثقافتهم وتراثهم تحظى بأي مكان في الدولة القومية المتشددة التي بناها مؤسس الدولة الحديثة، أتاتورك، على أسس أيديولوجية صلبة لا مكان فيها للدين الإسلامي، ولا للتعدد العرقي.

من متابعتي القديمة للشأن التركي، لاحظت أنه، وبمجرد ما وصل حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة سنة 2002 كانت إحدى همومه الكبرى تفكيك لغم المسألة الكردية. ليس فقط لكونها تشعل حربًا داخلية وعلى الحدود مع الجناح المسلح للحزب العمالي الكردي، بل لأنها كانت أحد الملفات التي تحتكر المؤسسة العسكرية تدبيرها، وتمنع أي حزب سياسي أو حكومة من الاقتراب منها.

حتى أنه، في تركيا، كان هناك بند في القانون الجنائي يمنع إقامة أي حوار أو تفاوض أو حتى اتصال بالحزب الإرهابي. وكان اسم PKK (حزب العمال الكردي) ممنوعًا من الذكر في وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية.

كانت هناك دماء، وأحقاد، وثأرات، وضحايا من الجانبين، تراكمت على مدار أربعين سنة. وكانت تركيا قد أفلحت، منذ زمن الحرب الباردة، في تصنيف الحزب الماركسي الثوري لأوجلان على قائمة الإرهاب الدولية.

لكن الحزب الثوري المسلح وحربه كانا يتغذيان من هضم حقوق الأكراد في تركيا، ومن عدم اعتراف الدولة اليعقوبية بحقوق الأقليات، وهي بالملايين في دولة أتاتورك (يصل عدد الأكراد في تركيا إلى حوالي 16 مليون نسمة، وهم يمثلون حوالي 15% من السكان، ويشكّلون ثاني عرقية بعد الأتراك، ويتمركزون في جنوب شرق تركيا والمدن الكبرى).

سارع أردوغان، مع كل تقدم سياسي وانتخابي للحزب، ومع كل تطور ديمقراطي للنظام السياسي التركي – الذي كان يُبعد تدريجيا نفوذ الجيش عن القرار السياسي (هذا التطور، للأسف، توقف لاحقًا، وحلت محله سلطوية أردوغان وفائض زعامته التي قتل روح الديمقراطية والحرية في البلاد، وهذه قصة أخرى) – سارع اردوغان إلى تشكيل خلية تفكير موسعة لدراسة جذور هذا النزاع، ونزاعات مماثلة حول العالم، واقتراح حلول ومداخل جديدة لحل الأزمة الكردية، التي تتغذى من أوضاع داخلية وإقليمية، وهوية عرقية وثقافية ولغوية تبحث عن دولة لها في الإقليم الممتد من تركيا إلى العراق إلى سوريا إلى إيران.

تكونت اللجنة التركية التي شكلها أردوغان من دبلوماسيين مخضرمين، وأساتذة جامعيين متخصصين في النزاعات الدولية، وأدباء، وفنانين، ومثقفين، ووجوه من المجتمع المدني، قادرة على إقناع الرأي العام التركي بجدوى التفكير بطرق مختلفة لحل أزمة كبيرة وخطيرة ومكلفة للجميع، ضد حزب ثوري ماركسي يقاتل داخل البلاد وفي الإقليم، مستفيدًا من حاضنة شعبية وامتدادات كردية إقليمية في العراق وسوريا خصوصًا وقد تقدمت هذه اللجنة بمقترحات عديدة وحلول مبتكرة استفادت منها الحكومة .

بدأ أردوغان وحزبه بالاعتراف باللغة الكردية كلغة وطنية في الأقاليم ذات الأغلبية الكردية في الشرق، وفي ديار بكر، دخلت اللغة الكردية أولًا إلى المدارس، ثم إلى الإعلام، وأخيرًا إلى البرلمان من خلال حزب الشعوب الديمقراطي الذي كان على اتصال مع الثوار لكن الحكومة أغمضت عيونها لان الهدف هو ادخال المسالة الكردية إلى المؤسسات وإبعادها عن السلاح ، وهكذا سمحت الحكومة للتيارات السياسية الكردية بالترشح للانتخابات ودخول البرلمان.

ثم بدأ تنزيل بنود من الحكم الذاتي للإقليم الكردي عمليا على الارض ، علاوة على فتح قنوات الاتصال مع الأكراد في الداخل والخارج، وخاصة في السجن، وعلى رأسهم زعيمهم الكاريزمي عبد الله أوجلان، المسجون في جزيرة إيمرالي (Imrali) الواقعة في بحر مرمرة، حيث يقضي عقوبة سجن مدى الحياة.

ما وقع أمس من بداية تخلي الحزب الماركسي القديم عن أسلحته، وتخليه عن مطلب الانفصال لصالح الحكم الذاتي الموسع، ليس تفصيلًا صغيرًا في السياسة التركية ولا في تطورات الإقليم المشتعل. أبدًا.

إنه منعطف كبير ستكون له تداعيات على المشروع الكردي كله في الإقليم، الذي كاد يصل إلى دولة في العراق وسوريا، لكن الضغط التركي والإيراني، وانهيار النظام السوري، وتعافي العراق نسبيًا، أوقف مشروع إقامة دولة جديدة للأكراد.

فضل عقلاؤهم وحكماؤهم الحكم الذاتي الموسع كإطار قانوني وسياسي وإداري لحل قضايا الحقوق المشروعة لجزء من السكان داخل الدول القائمة، وليس خارج الخارطة الحالية،

لأن تقرير المصير، كمبدأ في القانون الدولي ومدونة الحقوق والحريات، قد يكون مشكلًا وليس حلًا، في غياب مقومات إقامة دول جديدة فان المناخ المتوتر وحسابات الأطراف الخارجية لن تلد سوى كيانات ضعيفة ومخترقة، كما حصل مع دولة جنوب السودان، التي لم تعرف ولو يوم استقرار واحد بعد انفصالها عن السودان.

الآن لنأتِ إلى بلادنا، التي تعيش على وقع إدارة ملف نزاع الصحراء مع البوليساريو، التي تلتقي وتفترق عن أكراد تركيا.

يتقاطع الطرفان المسلحان في الجذر الماركسي اليساري الذي كان قويًا أيام التأسيس الأولى، قبل أن يخفت الآن. ثم يلتقيان في مطلب الانفصال والتشبث بحق إقامة دولة مستقلة.

ثم يجمع الأكراد مع الصحراويين حمل السلاح وخوض الحرب ضد الدولة المركزية، التي يسعون لإجبارها على التنازل عن جزء من ترابها.

ورابعًا، يلتقون في الخصوصية الثقافية (الحسانية في الصحراء، والكردية في ديار بكر وشرق الأناضول).

هنا يلتقي الأكراد مع انفصاليي الصحراء، المستقرين في ضيافة الجزائر.

أما الاختلاف، فهو أولاً: الزعامة الكاريزمية غير الموجودة حاليًا عند الصحراويين المحاصرين في مخيمات تندوف. فمنذ مقتل الوالي مصطفى السيد، مؤسس جبهة البوليساريو سنة 1976، في معركة على أطراف العاصمة نواكشوط، حيث كان يقود هجومًا مسلحا على مقر الرئاسة الموريتانية، لم تنتج الجبهة شخصية كاريزمية من وزن المؤسس.

وذلك راجع بالأساس إلى تحكم المخابرات العسكرية الجزائرية في صعود النخب داخل الجبهة، حيث ترفض الجزائر بروز قيادات وازنة قد تتمرد على وصاية الراعي الرسمي لمشروع الانفصال.

فلو كان وسط جبهة البوليساريو اليوم قيادة مثل أوجلان، لأخذت مسارًا آخر، ولخرجت من عنق الزجاجة الذي تتخبط فيه الآن. فهي لا تفاوض على مشروع الحكم الذاتي الموسع، المطروح على طاولة المفاوضات منذ 2007، ولا هي تقاتل فعليًا من أجل الانفصال على خط الجدار الأمني في الجنوب. وأسوأ ما يمكن أن يقع لأي تنظيم مسلح أو جبهة انفصالية هو: لا تفاوض ولا قتال.

وهذا يعرضها للتآكل الداخلي، ويدفع عناصرها إلى اليأس، وبدء التفكير في المصير الشخصي.

ثاني اختلاف بين أكراد تركيا وصحراويي البوليساريو، أن ملف هؤلاء دخل إلى الأمم المتحدة (وهذه واحدة من أكبر أخطاء الدبلوماسية المغربية)، بينما ملف الأكراد لم يدخل إلى المبنى الزجاجي في نيويورك.

وهكذا ظل نزاع تركيا مع أكرادها ملفًا داخليًا محدود التأثير الإقليمي. وبمجرد أن حققت تركيا نقاط انتصار مهمة في سوريا (حيث ساعدت جبهة النصرة المقربة منها على الوصول إلى السلطة)، وفي العراق (حيث انتزعت حق ملاحقة المقاتلين الأكراد خارج ترابها في كردستان)، انهار مشروع الانفصال الكردي، ولجأ الحزب العمالي التركي إلى التفاوض على الحكم الذاتي، لا الانفصال.

أما ثالث اختلاف، فهو الدولة الراعية. الجزائر تستعمل ورقة حقوق الأقليات الموجودة على أرضها لمناوشة الجار، ولتضع حصاة في رجله، تمنعه من التقدم.

لا توجد جزائر على حدود تركيا، تسلح وتؤوي وتصرف على مشروع الانفصال حتى لا يموت، وتمنع أصحاب القضية من البحث عن حل تاريخي مشرف لإنهاء معاناة البشر هناك.

بلا شك، تابعت – وستتابع – نخبة البوليساريو من مخيمات تندوف نهاية مشروع انفصالي كبير، كان عمره من عمر مشروع الانفصال الصحراوي.

وربما تستخلص الدروس، وهي ترى مشهد إحراق البنادق في الجبل، وحمل أغصان الزيتون من قبل مقاتلي PKK، والجلوس للتفاوض على مشروع للحكم الذاتي الموسع.

فعصفور في اليد، خير من عشرة على الشجرة…

خاصة إذا كانت هذه الشجرة بعيدة، وتزداد بُعدًا مع الأيام.

13/02/2025

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button