
ـ غزة بين وهم دبي الثانية وحقيقة التطهير الجماعي ـ
(كش بريس/ التحرير)ـ أثار سايمون جينكنز، المعلّق في صحيفة الغارديان، جدلاً واسعاً حين وصف خطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الخاصة بـ”غزة ما بعد الحرب” بأنها “فاحشة سياسية وأخلاقية”، متسائلاً إن كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير هو من أوحى له بها. بالنسبة له، مجرد زيارة بلير إلى واشنطن ومشاركته في نقاشات البيت الأبيض حول هذه الخطة أمر مقلق، إذ يفتح الباب أمام دور ملتبس وغير واضح المعالم.
مضمون الخطة
تقوم فكرة ترامب، التي كُشف عن تفاصيلها بعد طرحها أمام العالم المتشكك في فبراير، على إخلاء مليوني فلسطيني قسراً أو حشرهم في معازل، فيما تتولى الولايات المتحدة إدارة قطاع غزة لعشر سنوات. يُمنح كل فلسطيني مبلغاً رمزياً (5 آلاف دولار) مع تكاليف إيجار مؤقتة وإمدادات غذائية لعام واحد، ثم يُعاد بناء غزة كـ”دبي ثانية” مليئة بناطحات السحاب، ووجهة للاستثمار في الذكاء الاصطناعي والسياحة، بعائدات خيالية تصل إلى 400 مليار دولار لصالح شركات خاصة.
غير أن هذه الشركات نفسها هي التي تدير حالياً صناديق “المساعدات الإنسانية” لقطاع يرزح تحت المجاعة. أما الفلسطينيون، فبحسب خطاب ترامب، سيكونون “أفضل حالاً” لو عاشوا “بجمال” في أماكن أخرى. ومن ثمّ، تُقدَّم الخطة كغطاء لإعادة إنتاج استعمار بوجه استثماري–سياحي، لا كمسعى لحل سياسي عادل.
انتقاد الكاتب
جينكنز يرى أن الخطة غير مقبولة إطلاقاً إلا في نظر إسرائيل، لأنها تقوم على تطهير جماعي وسرقة للأرض، وهو ما يتعارض مع أبسط المعايير الأخلاقية والسياسية. ويذكّر بأن الولايات المتحدة، بوصفها الراعي الأساسي لإسرائيل منذ حرب أكتوبر 2023، تتحمل مسؤولية أخلاقية مباشرة عن تدمير أكثر من 90% من البنية التحتية في غزة، ومقتل عشرات الآلاف من المدنيين.
ويضيف أن أي حديث عن “إعادة إعمار” يجب أن يُبنى على خيارات أكثر واقعية، مثل المقترح المصري والعربي لتخصيص 53 مليار دولار لإعمار القطاع، أو العودة إلى اتفاق أوسلو، أو حتى صياغة شراكة تنموية فلسطينية–إسرائيلية، لا على أساس الإقصاء والتهجير.
قراءة في سياق السياسة الأمريكية
الكاتب يضع خطة ترامب ضمن سلسلة طويلة من التجارب الاستعمارية الأمريكية الفاشلة: من الفلبين وأمريكا اللاتينية في مطلع القرن العشرين، إلى فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وصولاً إلى التدخلات في لبنان والصومال. في كل مرة، كانت هناك فجوة شاسعة بين الشعارات المعلنة (بناء الديمقراطية، تحرير الشعوب، إعادة الإعمار) والنتائج الكارثية على الأرض.
ويشير إلى تناقض ترامب نفسه: فهو ينتقد “بناة الأمم” الذين دمّروا أكثر مما عمّروا، لكنه يقدّم خطة لا تختلف جوهرياً عن تلك المغامرات الاستعمارية السابقة، بل ربما أسوأ، لأنها تمنح الاحتلال الإسرائيلي غطاءً اقتصادياً وأخلاقياً زائفاً.
- من حيث المضمون: الخطة تحمل سمات “الهندسة الديموغرافية القسرية”، أي محاولة إعادة تشكيل سكان غزة قسراً، وهو ما يُصنَّف في القانون الدولي كتطهير عرقي.
- من حيث الجدوى: تحويل غزة إلى “دبي ثانية” يتجاهل واقعها السياسي والجغرافي والديموغرافي، فغزة ليست أرضاً فارغة بل موطن شعب له ذاكرة وهوية وصراع تاريخي مع الاحتلال.
- من حيث الأخلاق: طرح تعويض مالي ضئيل مقابل اقتلاع شعب من أرضه ليس سوى إعادة إنتاج لمنطق الاستعمار الكلاسيكي، حيث تُشترى الأرض والكرامة بالمال.
- من حيث السياسة الدولية: من المستبعد أن تجد الخطة دعماً عربياً أو غربياً، لأنها تتعارض مع الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة. بل قد تزيد من عزلة واشنطن وتكشف ازدواجية خطابها حول حقوق الإنسان.
- من حيث التاريخ: تعكس الخطة استمرارية في النهج الأمريكي الذي يتأرجح بين شعار “عدم التدخل” واندفاعات استعمارية متكررة، مع تكرار نفس الأخطاء: غياب فهم عميق للمجتمعات المستهدفة، والاستخفاف بتكاليف السيطرة، والتخلي في النهاية عن المشاريع بعد أن تخلف وراءها الفوضى.
يخلص جينكنز إلى أن غزة تحتاج إلى خطة إعمار حقيقية تراعي حقوق شعبها التاريخية وتفتح أفقاً سياسياً عادلاً، لا إلى مشروع استثماري–استعماري يبرر عدوان نتنياهو ويعيد تدوير فشل الولايات المتحدة في بناء الأمم. أما خطة ترامب فهي تجسيد لسياسة عرجاء، تُغلف الاحتلال بطلاء سياحي واقتصادي، لكنها في الجوهر امتداد لنهج “كسر الدول” بدل بنائها.