‏آخر المستجدات‏أخبار وطنية

خطاب النصر: من “التدبير إلى التغيير”.. لحظة مفصلية في تاريخ الوحدة الترابية

(كش بريس/التحرير)ـ

يشكل الخطاب الملكي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مساء اليوم، بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، منعطفاً تاريخياً في مسار القضية الوطنية الأولى، إذ أعلن بوضوح دخول المغرب مرحلة “الحسم” في ملف الصحراء، بعد صدور القرار الأخير لمجلس الأمن، الذي اعتبر مبادرة الحكم الذاتي الأساس الواقعي والوحيد للتسوية النهائية.

لقد بدا الخطاب بمثابة إعلان لافتتاح مرحلة ما بعد النزاع المفتعل، حيث ربط الملك بين لحظتين مركزيتين في التاريخ الوطني: لحظة المسيرة الخضراء سنة 1975، ولحظة الاعتراف الدولي الواسع بمغربية الصحراء سنة 2025. وبين التاريخين خمسون عاماً من العمل الدبلوماسي والسياسي والإنمائي، تحولت فيها قضية الصحراء من موضوع نزاع إقليمي إلى رمز لهوية الدولة ووحدتها التاريخية.

البعد التاريخي.. من مسيرة التحرير إلى مسيرة التثبيت:

حين قال الملك: “بعد خمسين سنة من التضحيات، ها نحن نبدأ فتحاً جديداً”، فقد أشار إلى أن المسيرة الخضراء لم تنتهِ، بل تطورت من تحرير الأرض إلى تحرير الوعي الدولي من رواسب الانقسام والإيديولوجيا.

ففي مطلع السبعينيات، كان الرهان مغربياً خالصاً على استكمال الاستقلال الترابي، أما اليوم، فالعالم نفسه صار شاهداً على عدالة القضية، ومقتنعاً بأن الحل في الصحراء لا يمكن أن يخرج عن السيادة المغربية.

الخطاب أعاد تثبيت الذاكرة الجماعية للمغاربة، عبر وصل الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء بالذكرى السبعين للاستقلال، في ترابط رمزي يعيد تعريف الوطنية المغربية بوصفها مساراً مستمراً من البناء والتكامل بين الماضي والمستقبل.

البعد السياسي.. من الاعتراف إلى التفعيل:

جاء خطاب 2025 في لحظة دولية استثنائية، بعد صدور القرار الأممي الذي كرس لأول مرة هيمنة المرجعية المغربية على مسار التسوية.

حين قال الملك: “هناك ما قبل 31 أكتوبر 2025، وهناك ما بعده”، فقد رسم بوضوح خط فصل زمني بين مرحلتين: مرحلة الدفاع والمرافعة عن مغربية الصحراء، ومرحلة تفعيل الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء”.

فبعد أن أصبحت ثلثا دول العالم تعترف بالحكم الذاتي كإطار وحيد للحل، وأقامت دول كبرى تمثيلياتها القنصلية في الداخلة والعيون، أصبح المغرب، كما قال الملك، في مرحلة التغيير البنيوي للملف، حيث سينتقل إلى “تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي”، لتكون وثيقة تفاوض نهائي داخل الأمم المتحدة.

الملك هنا لم يعلن انتصاراً سياسياً بقدر ما دعا إلى توازن الحكمة والانتصار الهادئ، حين قال: “المغرب لا يعتبر هذه التحولات انتصاراً، ولا يستغلها لتأجيج الصراع”. إنها لحظة قوة مفعمة بالمسؤولية، تُظهر أن الشرعية التاريخية تقترن دائماً بالشرعية الأخلاقية في المنظور المغربي.

البعد الدبلوماسي.. تثبيت التحالفات وبناء الثقة:

من اللافت أن الخطاب تضمن إشادة مباشرة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في دلالة رمزية على استمرارية الاعتراف الأمريكي التاريخي بمغربية الصحراء. كما أشاد بالدول الأوروبية والعربية والإفريقية الداعمة، في تعبير عن تحول موازين الدعم الدولي لصالح المملكة.

هذا الاعتراف لا يعكس فقط شبكة تحالفات تقليدية، بل يؤشر إلى نجاح الدبلوماسية المغربية في تدويل مقاربة التنمية والاستقرار بوصفها حجر الزاوية في الحل.

في المقابل، أطلق الملك نداءً صريحاً إلى الجزائر والرئيس عبد المجيد تبون للحوار الأخوي، في خطوة تؤكد ثبات المغرب على منطق التعاون بدل التصعيد، وعلى الرغبة في إحياء الاتحاد المغاربي على أسس جديدة قوامها الثقة والاحترام المتبادل.

البعد الإنساني.. نداء إلى العائدين من مخيمات تندوف:

في لحظة إنسانية قوية، وجه الملك نداء إلى المغاربة المحتجزين في مخيمات تندوف، داعياً إياهم إلى “اغتنام الفرصة التاريخية لجمع الشمل”، مؤكداً أن “جميع المغاربة سواسية، لا فرق بين العائدين وبين المقيمين في الوطن”.

هذا النداء يتجاوز الخطاب السياسي، ليعانق البعد الإنساني والوطني في قضية الصحراء، ويعيد تعريفها كقضية مصالحة داخلية، لا مواجهة خارجية.

البعد الاستراتيجي.. الصحراء كمحور تنموي إفريقي:

الملك تحدث عن الأقاليم الجنوبية باعتبارها “قطباً للتنمية والاستقرار ومحوراً اقتصادياً في منطقة الساحل والصحراء”، وهو تصور استراتيجي ينقل الملف من منطق السيادة الترابية إلى منطق السيادة التنموية.

فالصحراء، كما يرسمها الخطاب، لم تعد حدوداً جغرافية، بل جسراً حضارياً واقتصادياً بين المغرب وإفريقيا، ومختبراً لمشروع الدولة الجهوية الحديثة.

من رمزية المسيرة إلى واقعية الدولة:

بهذا الخطاب، رسم محمد السادس مستقبل ما بعد المسيرة الخضراء: مسيرة من نوع آخر، عنوانها الإصلاح والتحديث والاندماج القاري.

لقد ارتقى الملك بالذكرى الخمسين من احتفال رمزي إلى تأمل في مسار الدولة المغربية الحديثة، مؤسساً لزمن جديد يمكن تسميته بـ “زمن التثبيت والسيادة”.

إنه خطاب يعلن، بعبارة واضحة وهادئة، أن مغربية الصحراء لم تعد قضية انتظار، بل قضية استكمال مشروع الدولة، وأن ما تحقق بعد نصف قرن من التضحيات ليس نهاية الطريق، بل بداية فتح جديد في وعي الأمة المغربية وهويتها التاريخية.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button