
يطرح سؤال الهوية الوطنية، من منظور السوسيولوجيا الترابية، إشكاليات عميقة تتعلّق بعلاقة الدولة بالتراب الوطني من جهة، وبكيفية تشكّل الانتماءات الفردية والجماعية ضمن فضاءات ترابية متمايزة من جهة ثانية. فليست الهوية الوطنية معطًى جاهزًا أو “جوهرًا ثقافيًا” سابقًا على التجربة الاجتماعية، بل هي نتاج تفاعل مع التراب، وتعبير عن هندسة رمزية وتمثيلية للانتماء.
1. الهوية الوطنية كإيديولوجيا توحيدية وإقصائية
تقوم الإيديولوجيا الوطنية الحديثة، كما بلورتها الدول الوطنية بعد الاستقلال، على منطق التوحيد الرمزي والسياسي للتراب الوطني. وهي إيديولوجيا:
• تُسطّح التعدد الترابي، وتحوّل كافة الجهات والترابات إلى مجرد “وحدات إدارية” ضمن تصوّر مركزي للهويّة؛
• تمارس نوعًا من الاستيعاب القسري للانتماءات الترابية المحلية، باسم الولاء للوطن الواحد؛
• تجعل من اللغة الرسمية والتاريخ الرسمي والثقافة الرسمية أدوات لإنتاج “الهوية من فوق”، لا لتثمين ما يُنتج داخل التراب المحلي.
هكذا تتحوّل الهوية الوطنية إلى إيديولوجيا شمولية تمحو الفوارق الترابية بدل أن تعترف بها، وتعيد إنتاج مفهوم “المواطن المجرّد” الذي لا جذور له في تراب معيّن.
2. من السوسيولوجيا الترابية إلى نقد هوية مُفرغة من التراب
السوسيولوجيا الترابية تسائل الهوية الوطنية ليس من حيث الشعارات، بل من خلال العلاقة بالتراب كمنبع للانتماء؛ إذ يتجذر كل انتماء جماعي في علاقة حية بالتراب، لا بالحدود الجغرافية فقط؛ والتراب ليس فقط موقعًا جغرافيًا، بل فضاء رمزي-اجتماعي تنتج فيه الذاكرة، الطقوس، اللغة، وغيرها.
ثم هناك كذلك صراع الرموز بين المركز والهوامش الترابية؛ حيث إن تسمية الأماكن، وتوزيع المشاريع، والاحتفاء بالأعياد الرسمية، كلها ممارسات تعكس احتكار الدولة لتمثيل التراب. وفي المقابل، تُهمَّش الرموز المحلية (أسماء، لغات محلية وجهوية، أضرحة، طقوس…) وتُعامل كموروث “ثانوي” أو “تقليدي”.
وأخيرا، هناك التجانس القسري وهشاشة الانتماء. فحين تُفرض الهوية الوطنية بطريقة عمودية دون مراعاة الحميمية الترابية للانتماء، ينتج عن ذلك استيلاب المواطن واغترابه عن الدولة، بل وتفكك الرابط الوطني ذاته. وما يُسمّى “الوطن” يتحوّل إلى كيان فوقي، لا يعكس التجارب الترابية المتنوعة للمواطنين.
3. من الهوية الوطنية كإيديولوجيا إلى الهوية الترابية كمشروع للمواطنة
لمواجهة هذه الإشكالية، تقترح السوسيولوجيا الترابية إعادة التفكير في مفهوم الوطنية انطلاقًا من التراب، لا من المركز؛ أي الاعتراف بأن الانتماء الوطني لا يُبنى إلا عبر تثمين الانتماءات الترابية. ضف إلى ذلك كون الاعتراف بالتراب المحلي كمنبع شرعي للهوية، لا كعائق أمام “الوحدة”. ثم إن إعادة تشكيل مفهوم الوطن على أساس تركيبي وتعددي، يجعل من كل تراب مساهمًا في الهوية الوطنية، لا مجرد متلقٍ لها.
نستخلص من كل هذا أن الهوية الوطنية، حين تُفهم من منظور ترابي، تظهر ليس كجوهر جاهز أو كيان فوقي، بل كسيرورة اجتماعية ترابية تتشكل عبر تفاعل الناس مع فضاءاتهم، مع ذاكراتهم الترابية، ومع تمثلاتهم للحياة الجماعية. أما الإيديولوجيا الوطنية حين تتجاهل هذا العمق الترابي، فإنها تتحول إلى مشروع إقصائي، هش، ومولّد للتمزقات بدل أن يوحّد.