
ـ أو بين هايدغر وروسو والمشاركين الإسرائيليين: عن حدود العلم ومأزق الحياد الأكاديمي ـ
في ظل الجدل المثار حول مشاركة باحثين إسرائيليين في المنتدى الدولي للسوسيولوجيا المزمع تنظيمه بالرباط، وما أثارته الهيئة المغربية للسوسيولوجيا من موقف رافض لأي تطبيع أكاديمي مع كيان يمارس القتل والتشريد، تبرز الحاجة إلى طرح سؤال جوهري: هل يمكن عزل العلم عن السياسة؟ وهل الحياد الأكاديمي ممكن – بل مشروع – في زمن الإبادة؟
يستدعي النقاش، بشكل لا يمكن تجاهله، اسم مارتن هايدغر. الفيلسوف الألماني الذي انضم للحزب النازي سنة 1933، وتورط في دعم مشروعه السياسي داخل الجامعة، وأبدى إعجابه الشخصي بهتلر. ورغم هذه الخطيئة السياسية، لم يُحذف اسمه من التاريخ الفلسفي، بل بقي من أعمدة الفكر الأنطولوجي في القرن العشرين. الوجود والزمن “l’être et le temps ” ما يزال نصًا مرجعيًا، لا لقيمة صاحبه السياسية، بل لقيمة عمله الفكري. وها هو جان جاك روسو، أحد أعظم المفكرين في تاريخ التربية، الذي كتب “إميل أو في التربية”، مؤسسًا لنظريات بيداغوجية رائدة في القرن الثامن عشر، رغم كونه قد تخلّى عن أبنائه إلى دار الأيتام دون أن يسعى لتربيتهم. أخلاقيًا، سقط روسو، لكنه فلسفياً لم يسقط. فالأفكار لا تُقاس بخطيئة الأفراد، بل بقيمتها العقلية ومفعولها التاريخي.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يُفهم هذا الموقف بوصفه دفاعًا عن “الحياد “. فالفرق شاسع بين قراءة هايدغر أو روسو كمفكرين رغم ماضيهم، وبين دعوة باحث إسرائيلي اليوم لإلقاء محاضرة داخل جامعة مغربية، يبرر فيها سياسة دولته تحت غطاء أكاديمي، كما في مداخلة تحت عنوان: “مجتمع في طور الصمود بعد صدمة 7 أكتوبر 2023 في إسرائيل”. أليس هذا تبرير لجريمة ؟
إن من حق الشعوب، ومن واجب الجامعات، أن تميّز بين الباحث من أجل المعرفة، والباحث الذي يتستر خلف المعرفة لتبرير الإجرام. لست ضد اليهود ولا ضد الأكاديميين. بل انا ضد تحويل المنابر العلمية إلى أدوات للشرعنة، و”الحياد الأكاديمي” إلى ذريعة للسكوت عن المجازر. فإذا لم يُطرد هايدغر وروسو من دوائر الفلسفة رغم خطاياهما، فلنطرد إذن من يسخر من جراح الناس لتلميع قاتلهم، لا من يُذكّرنا بإنسانيتنا. فالعلم لا يُحاسب على الجنسية، لكن من يتكلم باسمه يُحاسب على صدقه، وعلى ضميره، وعلى موقفه من دم الضحايا.
الحياد، حين يساوي بين الجلاد والضحية، ليس علمًا، بل جريمة ناعمة. يتصل معناه بعملية إنتاج المعرفة السوسبولوجية، لا بعملية توظيف تلك المعرفة ضمن دوائر التجاذب والتموقع السياسي أو الاجتماعي بكل أبعاده.. فالعلم لا يحاسب على جنسية العلماء، خاصة وأن من بين السوسيولوجيين الإسرائيليين من بناهضون بقوة سياسات دولتهم العنصرية الاستيطانية القائمة على الحرب والإبادة..
*باحث في السوسيولوجيا بجامعة القاضي عياض بمراكش