
تم كتابة هذه المقالة في الأصل باللغة الهولندية بهدف وضع القارئ الغربي في الصورة الحقيقية لما يحصل في فلسطين وغزة. هذا القارئ الذي لا يستطيع تبيّن الحقيقة بسبب التزييف الإعلامي والتوظيف السياسي وهيمنة المفاهيم والسرديات المغلوطة، ومن بينها اعتبار المقاومة الفلسطينية عامة ومقاومة حركة حماس خاصة ممارسة إرهابية ضد المواطنين الإسرائيليين. وقد حاولنا بلورة مجموعة من الحقائق التاريخية في فقرات مختصرة ومركزة؛ لعلّ صداها يصل إلى المواطن الأوروبي والغربي المضلل إعلاميا والمقولب سياسيا والمموّه فكربا.
في الحقيقة، لا يمكن وضع المسلمين كلهم في سلة واحدة، فالإسلام يتسم بتنوع ثقافي هائل قد لا نجده في ديانات وثقافات أخرى. ومرد ذلك إلى أن انتشار الإسلام وتوسعه سواء قديما عبر الفتوحات العسكرية وتنقلات التجار والرحالة، كما حصل في أسيا وأفريقيا وأجزاء مهمة من أوروبا، أو حديثا عبر الهجرة لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دراسية، حيث أصبح المسلمون يعيشون اليوم في أغلب قارات وبلدان العالم.
وهذا التنوع لا يقتصر على ما هو ثقافي فقط، بل يتجاوزه إلى ما هو فقهي وقانوني وإلى طبيعة التدين الذي يتأثر بالجغرافيا والأعراف والسياسية. وقد أدى هذا إلى ظهور تيارات وتوجهات ومذاهب مختلفة ضمن الإسلام، منها ما هو فقهي، ومنها ما هو عقدي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما تمتزج فيه هذه الاختلافات كلها. وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة من التيارات المحسوبة على ما يطلق عليه “الإسلام السياسي”، سواء الجهادي، مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها، أو المعتدل مثل جماعة الإخوان المسلمين بمختلف حركاتها وتفرعاتها وأحزابها السياسية التي تكاد تغطي أغلب الأقطار العربية والإسلامية، ومنها ما هو محظور كجماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن، وجماعة العدل والإحسان في المغرب، وغيرهما، ومنها ما هو مسموح له، مثل حزب النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وجمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت، وغيرها.
ومن بين الحركات الإسلامية النشيطة والحاضرة بشكل مكثف في الإعلام والسياسة منذ سنوات طويلة، حركة المقاومة الإسلامية، التي يطلق عليها اختصارا “حماس”، والتي ازدادت شهرة مباشرة عقب أحداث 7 أكتوبر 2023، لا سيما في المشهد اليومي والإعلامي الأوروبي والغربي. وقد أصبحت كلمة “حماس” تتردد على لسان كل إنسان غربي، لكن للأسف الشديد بشكل سلبي في الغالب العام، حيث تُقدم هذه الحركة على أنها حركة إرهابية. ونستغرب كثيرا عندما نسمع صحافيين في وسائل إعلام أوروبية وغربية، من قنوات تلفزية وجرائد ومنصات إلكترونية، يتبنون أيضا هذه النظرة السلبية إلى حركة حماس، ومنهم من كنا نعتبره في السابق موضوعيا ومحايدا.
وقد ساهم مثل هذا الخطاب الإعلامي المدعوم إيديولوجيا وسياسيا من دول غربية مختلفة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، في شيطنة حركات حماس، وإلصاق تهمة الإرهاب بها، دون التمييز الموضوعي بين سياق هذه الحركة التاريخي والسياسي وسياق غيرها من الحركات المتطرفة، مثل داعش وبوكو حرام. لكن لماذا يجب علينا أن لا نضع حركة حماس في السلة نفسها ونماثلها بالحركات المتطرفة في المنطقة العربية أو خارجها؟
في الواقع، لا يمكن الإجابة بشكل سليم عن هذا السؤال دون الرجوع إلى الجذور التاريخية لهذه الحركة، وهذا ما لا يعرفه أغلب المواطنين الأوروبيين والغربيين، وغالبا بسبب تأثير وسائل الإعلام المسيسة، وتواطؤ السياسات الغربية مع السرديات الإسرائيلية. بل وهذا ما يتجاهله أيضا عدد من المثقفين والمدرسين والإعلاميين والكتاب في الغرب، والذين كان يُنتظر منهم إنصاف القضية الفلسطينية، أو على الأقل التعاطي بموضوعية مع ما يرتكب من مجازر بشعة في غزة وفلسطين منذ حوالي قرن من الزمن. ويمكن تفسير هذا التجاهل، إما بسبب الخوف من المتابعة القضائية بتهمة معاداة السامية، أو بسبب المصالح السياسية أو الشخصية، أو بسبب تأثير المناهج التربوية والتاريخية والجغرافية التي يتلقاها التلاميذ في المدارس عن تاريخ فلسطين والاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية على العموم.
وعندما نتصفح المصادر التاريخية نجد أن حركة حماس ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها تاريخيا لعقود طويلة؛ إلى ثلاثينات القرن الماضي أثناء ظهور جماعة الإخوان المسلمين مع حسن البنا، وظلت القضية الفلسطينية حاضرة في أجندتها السياسية، وتُوج ذلك بفتح فرع لجماعة الإخوان المسلمين في القدس عام 1945، وافتتاح مقر رئيس للجماعة في غزة في 1946. وفي عام 1973، تأسست الجمعية الخيرية الدينية الاجتماعية في غزة كفرع لجماعة الإخوان المسلمين من طرف أحمد ياسين. والغريب في الأمر أن الكيان الإسرائيلي شجع هذه المؤسسة على التوسع، وذلك بهدف ضرب منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) بها.
هذا، إذن، عن الجذور التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين وغزة بكونها الحركة – الأم لما يعرف اليوم بحماس، والتي هي اختصار لاسم الحركة الذي هو “حركة المقاومة الإسلامية”. ومنذ ديسمبر 1987 سوف يتم الإعلان الرسمي عن حركة حماس، وقد تزامن ذلك مع الانتفاضة الأولى التي اندلعت في الفترة من 1987 وحتى 1994.
وكل من يطّلع على تاريخ الحركة الإسلامية الفلسطينية عامة، وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” خاصة، يدرك أنه لا يمكن مماثلتها بالجماعات الإسلامية العنيفة التي ظهرت أثناء العقود الأخيرة، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، لأنه كما يظهر من اسم هذه الحركة ومن بيانها التأسيسي في ديسمبر 1987، أنها حركة مقاومة خالصة، ظهرت كرد فعل على الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. وهذا يعني أنها لا تختلف سواء عن حركات المقاومة الأوروبية ضد النازية والفاشية في أربعينات القرن العشرين، أو عن حركات المقاومة في شمال أفريقيا والبلدان الإسلامية وفيتنام والهند والصين وجنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها ضد الاستعمار الأوروبي والغربي التقليدي.
لماذا أصبحت العديد من الدوائر الغربية السياسية والإعلامية والأكاديمية تتعامل اليوم مع حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” على أنها حركة إرهابية ينبغي محاصرتها قانونيا واقتصاديا والضرب بيد من حديد على قاداتها وأتباعها ومناصريها، بينما تقدم حركات المقاومة الأخرى في المناهج الدراسية والأبحاث الأكاديمية والبرامج الوثائقية على أن زعماءها أبطال عظماء ينبغي اعتمادهم قدوات لأطفالنا وتلامذتنا وطلابنا؟ ألم تكشف أحداث غزة الأخيرة بالملموس عن ازدواجية التعامل الأوروبي والغربي مع المسلمين عامة والفلسطينيين خاصة؟ ألم يفضح ما يُمارس في غزة من إبادة وتقتيل وتشريد عن زيف السردية الإسرائيلية وكذب صناعها وداعميها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؟ ألا تعني الحركة الاحتجاجية الهائلة التي تشهدها أغلب البلدان الأوروبية والغربية أن الحقيقة بدأت تنكشف للعالم، وأنه بات واضحا من هو الجلاد الحقيقي ومن هي الضحية الحقيقية؟ ألا تشكل موافقة 17 دولة في الاتحاد الأوروبي على مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل ضربة موجعة للعدوان الصهيوني؟
وفي الختام، نخلص إلى أن أحداث غزة الدموية والمأساوية الأخيرة التي تديرها بلا رحمة ولا إنسانية الآلة الحربية الإسرائيلية بدعم عسكري ولوجستيكي وديبلوماسي من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا وخارجها، من شأنها أن تجعل الكثير من الناس في أوروبا والغرب يعيدون النظر في السردية الإسرائيلية الزائفة حول أرض فلسطين المحتلة. وهذا ما نتوقعه لا سيما من فئة معينة من العقلاء والحكماء والشرفاء. ولعل هذا الأمر بدأ يُترجم على أرض الواقع من خلال تزايد الوعي الصحيح بالقضية الفلسطينية عامة وبطبيعة حركة المقاومة “حماس” خاصة. إن الحركات الاحتجاجية التي تشهدها اليوم مختلف العواصم والمدن الأوروبية ضد المجازر الإسرائيلية في فلسطين، والتحولات التي بدأت تطرأ على المواقف السياسية الأوروبية تجاه إسرائيل، ما هي إلا دليل على أن المسألة الفلسطينية سوف تشهد منعطفا “إيجابيا” جديدا. وإن لم يكن ذلك في الواقع الأوروبي والغربي الحالي، فعلى الأقل على مستوى التصور والوعي حيث تبدأ عملية التغيير الحقيقية، كما نعتقد.