
ما يسترعي النظر أنه مباشرة بعد أزمة كورونا، اندلعت العديد من الصراعات والحروب في مختلف أنحاء العالم. وقد وقعت أهم هذه الحروب وأكثرها تدميرا في أوكرانيا والسودان واليمن وبلاد الشام (بما في ذلك فلسطين وسوريا ولبنان) ومناطق أخرى في أفريقيا وآسيا. وتعود جذور هذه الصراعات في الغالب الأعم إلى الماضي القريب أو البعيد. وما يهمنا هنا هو التصعيدات العسكرية التي حدثت في فترة ما بعد كورونا.
شهد العالم خلال مرحلة كورونا، وخاصة ما بين سنتي 2020 و2022، فترة من الاستقرار “النسبي” والسلام والتأمل. ورغم وجود صراعات هنا وهناك، فإنها كانت في كثير من الأحيان في حالة من الخمول؛ تماما مثل جذوات النار التي تبدو خامدة تحت الرماد، لكنها يمكن أن تشتعل من جديد في أي لحظة!
وهكذا بدأ الصراع بين روسيا وأوكرانيا في 24 فبراير 2022 باكتساح روسي واسع النطاق، ودخول القوات الروسية إلى أوكرانيا من جهات متعددة. وهذا الصراع ليس حديث العهد بل تعود جذوره إلى سنة 2014، غير أن التصعيد الحقيقي لم يحدث إلا منذ سنة 2022.
كما شهدت السودان حربا أهلية داخلية، اتسمت بالعنف الشديد والدمار الشامل. واشتعلت هذه الحرب في أبريل 2023 بين الجيش الحكومي وقوات الدعم السريع، لاسيما في العاصمة الخرطوم. وقد أدى هذا الصراع إلى أزمة لاجئين هائلة، حيث أجبر أكثر من عشرة ملايين شخص على الفرار من منازلهم، سواء داخليا إلى مناطق معينة من السودان أو إلى بلدان مجاورة مثل تشاد ودارفور ومصر.
وفضلا عن ذلك، نشبت حروب متنوعة في أماكن أخرى، ليس بعيدا عن السودان، وخاصة في الشرق الأوسط. ولا تزال الصراعات مستعرة في أجزاء مهمة من هذه المنطقة، حتى أصبحت تبعات هذه الحروب الممتدة بمثابة إرث تاريخي ثقيل، ينتقل من جيل إلى جيل آخر من مواطني هذه البلدان، تماما كما تنتقل الممتلكات والعقارات والأموال.
إن الصراع الأساس في منطقة الشرق الأوسط يتحدد فيما يطلق عليه “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، والمعروف أيضا بـ”الصراع العربي الإسرائيلي”. غير أن عددا من الأنظمة والحكومات العربية بدأت تنسحب اليوم تدريجيا من هذا الصراع، إما بالتطبيع الرسمي مع إسرائيل، أو جراء الخوف من الدعم العلني للقضية الفلسطينية، أو باعتماد خطاب مزدوج يعبر في الظاهر عن مساندة الفلسطينيين غير أنه لا يخلو في العمق من نوع من التماهي مع الكيان الإسرائيلي. وهذا يعني، أن القضية الفلسطينية أصبحت لم تعد من أولويات عدد مهم من الأنظمة العربية كما كان الأمر في الماضي. وقد كشفت أحداث غزة الأخيرة بالملموس عن المواقف العربية المتواطئة أو المزدوجة أو اللامبالية.
إن مفهوم الحرب يحيل على المواجهة المسلحة (بسلاح مادي أو معنوي) بين طرفين( أو أكثر) متكافئين إلى حد كبير من حيث القوة القتالية والقدرات العسكرية، كما هو الحال في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، أو الاقتتال الداخلي في السودان، أو التوترات الأخيرة بين الهند وباكستان. ولكن في حالة فلسطين، لا يوجد مثل هذا التكافؤ على المستوى العسكري واللوجستيكي، حيث لا قياس مع وجود الفارق!
ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار الصراع بين إسرائيل وحماس حربا متكافئة، بالمعنى التقليدي للمواجهات العسكرية الميدانية. إن إسرائيل تمتلك أحد أكثر الجيوش “تقدما” في العالم، كما تروج وسائل الإعلام ومراكز البحث الغربية، ويدعمها حلفاء أقوياء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقدم لها مختلف أصناف الدعم العسكري والتكنولوجي والدبلوماسي. وفي المقابل، ليست حماس (بما في ذلك الفصائل الموالية لها) أكثر من حركة مقاومة وطنية، تستعمل موارد محدودة وأسلحة تقليدية، وتمثل شعبا ضعيفا وأعزل يعيش تحت وطأة الحصار منذ سنوات طويلة.
وقد أصبح من الواضح، على مدار هذا الصراع، أن الهدف المحوري لإسرائيل ليس مجرد التفوق العسكري على حركة المقاومة حماس، ولا حتى القضاء عليها، بل التدمير الممنهج للوجود الفلسطيني في غزة، بما في ذلك المواطنين الأبرياء والمؤسسات الحيوية والبنيات التحتية والموارد الأساسية والتراث المادي واللامادي.
إن مخطط تهجير سكان غزة إلى مناطق ودول أخرى خارج فلسطين، مثل الأردن ومصر وغيرهما، ليس فكرة جديدة. إنها فكرة ظلت حاضرة منذ عقود طويلة لدى الحكومات الإسرائيلية المختلفة. وحسب صحيفة “إسرائيل اليوم” فإن فكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة تحضر في الاستراتيجية السياسية الصهيونية منذ أكثر من ستة عقود.
وقد كان هذا المخطط يناقش في الماضي بشكل سري، أما اليوم فقد أصبح يتم التعبير عنه بشكل علني. ويتحدث السياسيون الإسرائيليون دون تحفظ عن التهجير القسري لسكان غزة. وهذه السياسة الاجتثاثية يدعمها أيضا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جملة وتفصيلا. وقد أدلى في هذا السياق بتصريحات مثيرة للجدل حول مستقبل غزة، حيث اقترح شراء قطاع غزة وإعادة بنائه بتمويل من دول في الشرق الأوسط. وهذا ما لاقى استحسانا كبيرا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي دعا حكومته إلى الموافقة الفورية على خطة ترامب.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن من الناحية التكتيكية والعسكرية تشبيه ما يحصل في فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة بالحرب بمفهومها التقليدي. بل هو عبارة عن اعتداء وحشي وعنيف وغير متكافئ على شعب أعزل، يفتقر إلى الحاجيات الأساسية من ماء وغذاء ورعاية صحية.
وقد أصبح الآن من الواضح للعيان والأذهان، أن الهدف الأساس من الإبادة الجماعية التي تتعرض لها ساكنة قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، ليس، كما تدعي الدوائر السياسة الإسرائيلية والأميركية، القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية حماس، بل إجبار المواطنين الغزاويين على الهجرة والفرار من القطاع. وهذا ما يندرج في إطار سياسة التهجير الممنهجة التي يمارسها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في مختلف المدن والبلدات والقرى.
ويهدد هذا السيناريو تكرار التراجيديا التاريخية التي وقعت سنة 1948، عندما طرد خلال النكبة نحو نصف السكان العرب في فلسطين (أكثر من 700 ألف شخص) بالقوة والعنف من منازلهم، وصودرت ممتلكاتهم، وتم الاستيلاء على أراضيهم، ودمر ما بين 400 إلى 600 قرية، كما تمت محاولة محو الذاكرة الفلسطينية وإحلال التاريخي اليهودي محلها.
وختاما، ليس من المعقول أن ننعت الاجتثاث الممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني الغزاوي الأعزل من قوة صهيونية ظالمة وعاتية تستقوي بحليفها الأمريكي، بـ”الحرب الفلسطينية الإسرائيلية” أو بـ “حرب حماس وإسرائيل”، كما نقرأ ونسمع في مختلف المنابر الإعلامية الغربية، بل وحتى العربية، لأنه لا يمكن أن نتحدث عن حرب ميدانية متكافئة بين طرفين عندما يمتلك أحد الطرفين أعتى الأسلحة والتكنولوجيات الحربية، بينما الطرف الآخر يقاوم إبادة جماعية عارمة من أجل البقاء على قيد الحياة.