
غزة ليست النهاية، بل لها ما بعدها. ما يجري اليوم في هذا الجزء الصغير والمحصور من الكرة الأرضية لا يمكن اختزاله في صراع محلي قديم بين الجلاد الصهيوني والضحية الفلسطينية، أو في تصفية حسابات آنية بين طرفين متقاتلين، بل هو في الحقيقة بداية مرحلة قاسية ومصيرية يُعاد فيها رسم خرائط المنطقة بأدوات جديدة، ولكن بمنطق استعماري قديم. لا يختلف هذا المنطق عمّا حدث في المرحلة الإمبريالية التي مُزّق وقُسّم فيها العالم الثالث، بما في ذلك المنطقة العربية والأمة الإسلامية، وقد بلغ ذلك التمزق ذروته مع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي احتلت بموجبها فرنسا سوريا ولبنان، وبريطانيا العراق والأردن وفلسطين، والتي قُدّمت لاحقا على طبق من ذهب للصهاينة عام 1948.
لذلك، لا يمكن استيعاب ما يجري الآن في فلسطين وغيرها من البلدان العربية إلا بالعودة إلى تلك الجذور المتعفنة، التي استحالت إلى أورام سرطانية تنبت في مختلف أعضاء الجسد العربي المنهك، من البحر إلى المحيط. وها نحن اليوم أمام سياق تحوّلي يتجدّد، ولا يمكن فصله عن ماضي الاستعمار العسكري. وإذا كانت الدول الأوروبية التقليدية قد عملت على استئصال مقاومة أجدادنا وجهادهم ضد أي عدوان أجنبي، فإن الأمر نفسه يتكرر اليوم، حيث يُراد طي صفحة المقاومة وفتح صفحة جديدة عنوانها: إخضاع المنطقة برمّتها لمشروع توسّعي متكامل، ثقافيا واقتصاديا وجيوسياسيا. ولا نقصد هنا المقاومة المادية المسلحة فقط، بل أيضا المقاومة الفكرية والشعبية والأخلاقية، حيث تعمل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، والحركات السياسية المتواطئة، على إسكات كل من يرفض العدوان الصهيوني على غزة وفلسطين والمنطقة، ولو بحجب تدوينة، أو حذف صورة، أو إغلاق حساب.
نعتقد أن النظر إلى غزة بكونها ساحة معزولة عن محيطها العربي والإسلامي هو خطأ قاتل في الفهم، بل هي، كما كانت دوما، عتبة للقراءة والتحليل الأوسع لما يُخطّط للمنطقة العربية. إن المشروع الذي يُنفّذ اليوم على أرض غزة ليس سوى خطوة ضمن سلسلة مترابطة من الخطوات المدروسة بدقة وإحكام، تستهدف كل من يرفض الانخراط في “صفقة القرن” الجديدة، سواء في صورتها السياسية، أو في مستوياتها الاقتصادية، والعسكرية، والفكرية أيضًا؛ بلا شك.
إن مسألة اقتطاع أراضي بلدان الجوار الإسرائيلي، على سبيل المثال، لم تعد مجرد احتمال مستقبلي، بل أصبحت واقعا ملموسا نراه رأي العين. ففي الداخل الفلسطيني، لا تزال آلة الاستيطان تلتهم الضفة الغربية والقدس المحتلة بلا هوادة، ناهيك عن غزة التي دُمّرت على بكرة أبيها تمهيدا لإقامة المشروع الإسرائيلي الأمريكي مستقبلا. ويحدث هذا في ظل صمت دولي عميق، وتواطؤ إقليمي سافر. أما على حدود الكيان الصهيوني، فنشهد بين الحين والآخر مؤشرات خطيرة على تحرّكات توسعية تستهدف جنوب لبنان والجولان السوري المحتل، في مشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات إسرائيل في حرب 1967 واحتلالها للجولان، وما تلاها من اجتياح جنوب لبنان عام 1982. وهذا يعني أن التاريخ يُعاد اليوم بأدوات أكثر وقاحة، وبتواطؤ مكشوف ومعولم.
أما الأخطر من كل ذلك، فهو ما يمكن تسميته بـ”الدمج غير العسكري”، أو الإخضاع الناعم لدول الشرق الأوسط للمشروع الصهيوني. حتى إن الحديث عن الهيمنة الإسرائيلية لم يعد يُدرج في إطار ما يُطلق عليه “نظرية المؤامرة”، بل بات واقعا نشهده بأم أعيننا في اتفاقيات تطبيع متسارعة، ومشاريع اقتصادية ضخمة، وتنسيق أمني غير مسبوق، يربط بعض الأنظمة العربية بالكيان الإسرائيلي في علاقات غير متكافئة، ستجعل من هذا الأخير مركزا ولاعبا مفصليا في مستقبل المنطقة.
إن ما يجري في غزة اليوم هو جزء من هذا التحوّل الكبير والمتسارع، والرهان على الصمت الدولي أو استنزاف الشعوب لم يعد ذا جدوى. لأن منطقة الشرق الأوسط يُعاد تركيبها، تمامًا كما تُركّب أجزاء لوحة الألغاز، وفق مصالح قوى إقليمية ودولية ترى في إسرائيل الشريك الاستراتيجي الأهم. لذلك، فإن الدول التي تتوهّم أنها بمنأى عن هذا المشروع قد تُفاجأ في قادم الأيام بأنها الهدف التالي، سواء عبر التفكيك الداخلي، أو الابتزاز الاقتصادي، أو افتعال نزاعات حدودية.
وهذا يعني، في النهاية، أن غزة هي الجرس الذي يُقرَع مرة أخرى لتذكير الجميع بأن الصراع لم يُحسم، وأن من يظن أن القضية الفلسطينية قد انتهت، إنما يدفن رأسه في الرمال كما تفعل النعامة. إن الحرب على غزة ليست إلا بداية مرحلة جديدة؛ ستكون قاسية على المنطقة بأسرها، وسوف تشمل الجميع، سواء من الموالين أو المعارضين، إما بالاقتطاع الجغرافي لصالح “إسرائيل الكبرى”، أو بالإخضاع الاقتصادي لصالح خزينة “العم سام”… أو بكليهما.