
إن تاريخ الفلسفة عموما، وفلسفة القانون خاصة (الطبيعية، الوضعية أو التجريبية)، حافل بمفاهيم وحقائق وتمثلات مخالفة لهذه المفاهيم ولهذه الحقائق في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بالإنسان، بالقيم، بالحقائق نفسها أو بالأنظمة، باختلال الأنظمة، بالقضاء، بالعدالة، بالإنصاف، أو باللاعدالة، باللاإنصاف، بالحرب أو بالسلم… كل هذه المعطيات تدخل في باب المبالاة، أو اللامبالاة، في باب الرواقية (سطويسيزم، ابن سينا، ابن رشد، ابن طفيل)، في باب الحتمية أو السببية (الأشاعرة، الغزالي، ابن رشد، ك·بيرنار، دوركايم) أو الوجودية (سقراط، هيديكر، سارتر) أو النفيانية (ف· نيتش 1844-1900).
كل منظمة، مؤسسة، أو وحدة اجتماعية أو كونية ( إنسان، حيوان أو نبات) معرضة للتحول، للتغير، للتطور⸱ كل فعل، حركة مستمرة، حدث أو ظاهرة (طبيعية، ثقافية، اجتماعية، كائن حي أو فكرة عمت وانتشرت)، تتأثر بمحيطها لا محال وتخضع للتغيير باستمرار⸱ هذا التطور، هذا النشوء والارتقاء مسار أو سياق متواصل غير قابل للانعكاس (شارل داروين 1809-1882). يظهر كذلك هذا النشوء والتطور على مستوى المادة والحياة والنفس، وعلى مستوى الثقافات والحضارات، وعلى مستوى المجتمعات والقيم والأفكار والقانون، يقول أحمد شوقي (1868-1932) في باب أخلاق الأمم “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت إن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”⸱ وفكرة التغيير والتطور الدائم توجد كذلك في فلسفات كثيرة مثل البوذية والمعتزلة والأشاعرة والصوفية والهيكليانية والماركسية⸱⸱⸱وهذا الواقع التطوري يستلزم كذلك فكرة تكيف هذه الظواهر والوقائع والكائنات مع محيطها، فترة تعايشها وتموقع جغرافيتها·
كل ظاهرة كيفما كانت طبيعتها لها جذورها، أصلها وتطورها، والفرع يتبع الأصل، لا شيء من عدم· ونفس الشيء بالنسبة للقضاء· لم يظهر القضاء المغربي من عدم، ولم يجيء مع مجيء الاستعمار· لم يخرج القضاء الإداري ولا المادة الإدارية من عدم، ولا من قباعة الاستعمار، بل كان وما يزال متجذرا في التاريخ المغربي وفي تاريخ الحضارة العربية الإسلامية· كان الأمر فقط يتطلب بعض الجهد الدائم والمستمر فكريا وعلميا لتقصي الحقائق في هذا المجال بشكل أعمق، لأن القضاء بالمغرب حاليا بصفة عامة بما فيه الإداري، يحتاج، لنراه في لباسه الحقيقي، إلى “حفريات معرفية معمقة” (د· مستعد، مشاريع إصلاح القضاء بالغرب الإسلامي، نونبر 2015 هسبريس)·
أولا: قانون العين بالعين والسن بالسن، وما علمتنا المجتمعات القديمة
كانت النزاعات والصراعات في تاريخ الإنسانية وفي تاريخ المجتمعات القديمة يتم حلها بقانون الثأر والانتقام أو بالمعارك والحروب، واستثناء في إطار معاملات داخل أنظمة اجتماعية تابثة ومستوعبة، كما كان الشأن بين سكان أريحا الفلسطينية منذ 11000 سنة (الجيلالي شبيه، دراسات وأبحاث في أصل الجماعة والسلطة والقاعدة القانونية ومسايرتها للتطورات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في تاريخ الإنسانية، مقال باللغة الفرنسية على الأنتيرنيت، يناير 2020·
وظهرت فيما بعد، نمت وتطورت قوانين ومدونات تنظم الحياة الاجتماعية في ظل الحضارة الرافدية، أساسا العراق وسوريا حاليا، صيغت هذه القوانين بمبادرة من حكامها، مثل قانون أور نمو ( 4125 سنة)، وقانون ليبيت عشتار (3955 سنة)، وقانون حمورابي (3775 سنة)· كتبت هذه المدونات بالخط المسماري ونظمت بتفاصيل دقيقة قطاعات اجتماعية ضبطية مختلفة من الحياة اليومية، وعملت على احترام الإنصاف في العلاقات الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بقضايا الأسرة أو الملكية، بالتجارة أو بالمادة الجنائية· وعرفت مدونة حمورابي كأشهر وأشمل قانون في حضارة ما بين النهرين حيث اشتهر بالقصاص وقانون العين بالعين والسن بالسن وبمنهجيته المحكمة في القضايا القانونية والمسائل القضائية·
ظهر قانون الانتقام وتطور في بابلون، مدينة رافدية قوية، كنظام قانوني، قضائي-جنائي،منذ أكثر من 4000 سنة واستهدف الحد من الثأر والممارسات الانتقامية غير المتكافئة وإحداث نوع من التناسب بين الجريمة والعقاب· وعرف كذلك هذا القانون وانتشر فيما بعد في حضارات أخرى عديدة: يونانية ورومانية ويهودية ومسيحية وإسلامية· وصارت العدالة فيما بعد، مع تطور المجتمعات والحضارات والأنظمة القانونية والقضائية، عدالة ترميمية إصلاحية أكثر منها انتقامية، أو تبادل الضرر والمعاملة بالمثل، هدفها عقاب الجاني بقدر فعله (سجن، غرامة أو تعويض، أو همان، كما يقول النحاة) وجبر الضرر في إطار قضاء عمومي، وليس قضاء خاصا، وحماية الأفراد وإعادة إدماج السجناء بعد سراحهم· إلا أنه رغم أن قانون القصاص لم يعد هو القاعدة يمكن مع ذلك أن نجد له ممارسات في بعض الجهات والثقافات التي ما تزال تطغى عليها إيديولوجيات نفعية مصلحية أو معتقدات دينية متشددة أو مهجورة تماما·
وحتى القضاء أو العدالة العمومية نفسها لم تكن أبدا مستقلة مئة بالمئة، بل إلى وقت قريب كانت الإدارة وما تزال في بعض الثقافات قاضيا وطرفا في النزاع في نفس الوقت· وكان قديما الحاكم ملكا، نبيا أو خليفة حمورابي، موسى، عيسى، محمد، عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب، عبد الملك بن مروان، عمر بن عبد العزيز، المهدي، الهادي، الرشيد، المأمون، المهتدي، يوسف بن تاشفين، ابن تومرت، أبو يوسف يعقوب المنصور···هو الذي يفصل في الدعاوى، كلما كان الأمر تظلما، أو يفوض ذلك كلما كبر واتسع نفوذه إلى سلطات تابعة له أو يعين قضاة للبت فيها·
Ce que nous avons appris des sociétés dites « primitives ». Ce que nous apprennent nos ancêtres aujourd’hui encore : Robert Redfield (1897-1958), « La société dite « primitive », définie comme une « société organisée » et non pas une « foule » caractérisée par « des actions simples et simultanées », in l’Étude de la société Québec, les Presses de l’Université Laval, 1965, 517 pages.
ثانيا: قواعد قانونية وقضائية يرجع عهدها إلى 2400 سنة في ظل الحضارة الرومانية
تقول القاعدة الرومانية:
Ex facto oritur jus, le droit naît du fait.
أي أن القانون ينتج عن الفعل، والفعل يولد القانون· ونجد حاليا في كليات الحقوق والقانون التمييز بين الفعل والقانون وتدريسهما على هذا الأساس· وعرفنا كطلبة، ثم كأساتذة فيما بعد أن الفرق، في أغلبية الأحيان، شاسعا بين ما نلاحظه فعلا في الحياة الاجتماعية وبين ما تقوله القاعدة القانونية· وهنا كذلك يكمن الفرق بين ما تسعى إليه النصوص القانونية وما يجري في الواقع، وبين ما يحدث في الواقع وما يهدف القضاء إلى تأويله·
تقول كذلك قاعدة رومانية أخري:
Da mihi factum dabo tibi jus, donne-moi le fait, je te donnerai le droit. Là, il s’agit clairement de la qualification juridique des faits, que ce soit devant les tribunaux ou au sein des universités de droit.
ومن الواضح، في هذا الصدد كذلك، أن الأمر يتعلق أساسا بالتكييف القانوني للوقائع، وذلك سواء أكان الفعل تبت فيه المحكمة أو يناقشه أستاذ القانون داخل كلية الحقوق·
وتنص قاعدة رومانية ثالثة على أن:
Munus iudicis ad solas partium petitiones limitatur : non extra, non infra, non ultra.
La fonction du juge se limite aux seules demandes des parties : pas en dehors, pas en deçà, pas au-delà.
L’expression latine est connue sous la formulation suivante : ultra petita, extra petita, infra petita, omnia petita.
ويتعلق الأمر هنا بإلزامية القاضي بالتقييد بدفوعات الأطراف، لا أكثر ولا أقل ولا خارج المطالبات· راجع الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية: “يتعين على القاضي أن يبت في حدود طلبات الأطراف”· وحسب الفصل 402 من نفس القانون (ق. م. م.)، في حق إعادة النظر: إذا بت القاضي فيما لم يطلب منه (إكسطرا بيتيطا) أو حكم بأكثر مما طلب (أولطرا بيتيطا) أو إذا أغفل البت في أحد الطلبات (أنفرا بيتيطا)”·
تنحصر مهام القاضي في المطالبات والدفوعات المقدمة من الأطراف المعنية في الدعوى، إلا إذا كانت هذه المطالبات والدفوعات تخالف القانون أو النظام العام أو الأخلاق الحميدة·
« Tout est dit, et l’on vient trop tard depuis plus de sept mille ans qu’il y a des hommes et qui pensent ». Jean de La Bruyère (1645-1696).
ثالثا: اختصاصات القاضي في ظل الحضارة الرومانية، وذلك منذ 2400 سنة
كانت من بين اختصاصات القضاة في العهد الروماني الارتكاز أساسا، خلال مرحلة التكييف القانوني للنازلة، على قاعدة فهم وإدراك المغزى الصحيح للنص قبل النطق بالحكم:
Ratio legis : c’est-à-dire que l’interprétation de la loi ou la qualification juridique des faits doit tenir compte de la raison d’être, du sens exact ou encore de « l’esprit de la loi » défini comme « les rapports nécessaires qui dérivent de la nature des choses ». Montesquieu, De l’esprit des lois, Genève, 1748, 1ère phrase ; livre1, chap.1, éd. Barrillot et fils.
وكانت هذه الاختصاصات تفصل كذلك بين ما هو محلي وما هو نوعي، بين ما هو شخصي أو شيئي وما هو زمني، بين ما هو قيمي أو كيفي وما هو كمي·
الاختصاص المحلي يأخذ بعين الاعتبار محل سكنى المدعى عليه، أو مكان إلقاء القبض على الجاني أو مكان الاعتقال، أو محل أو مكان الضرر·
Ratione loci : en raison du lieu, le juge tient compte du domicile du défendeur, ou du lieu de l’arrestation.
Ratione loci damni : en raison du lieu du dommage, le juge considère que la compétence relève du tribunal où le dommage a eu lieu.
الاختصاص النوعي يميز بين القضايا المدنية والقضايا الجنائية وغيرهما
Ratione materiae : en raison de la matière objet du litige : civile, criminelle…
الاختصاص الشخصي يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المدعى عليه: قاصر، فلاح، تاجر أو وزير، والاختصاص الشيئي يعتبر حالة الشيء أو وضعيته، مثلا نزاع قائم في المادة العقارية تكون المحكمة المختصة هي المحكمة التي يوجد محل العقار في دائرة اختصاصها·
Ratione personae : en raison de la personne, s’agit-il d’un adulte ou d’un mineur, d’un paysan ou d’un commerçant, d’un magistrat ou d’un citoyen, d’un fonctionnaire ou d’un gouverneur ?
Ratione rei sitae : en raison de la situation de la chose, ainsi, le cas d’un litige foncier, la juridiction compétence est celle du lieu où est situé le foncier : terrain, immeuble…
الاختصاص الزمني يعتبر عامل الزمن مثل ما هو الشأن بالنسبة للآجال وتاريخ استحقاق الأكرية أو الضريبة أو الدين· وهناك كذلك مفاهيم تحدد الرجوع إلى الماضي في بعض الحالات مثل بطلان العقد منذ إبرامه، أو رجعية العقد، سواء كانت هذه العقود عامة أو خاصة، كالعقود الزمنية والتي يكون فيها عنصر الزمن أساسيا للالتزام، مثل عقود الإيجار·
Ratione temporis : à raison du temps, les délais en procédure sont d’une grande importance, que ce soit les délais d’action, d’attente ou leur calcul, ils structurent le procès, garantissent le bon fonctionnement de la justice et la protection des droits des justiciables.
Ex tunc : dès l’origine, l’expression désigne le retour à l’origine de l’acte, de la décision ou de la loi afin d’évaluer l’ensemble des effets, exemple : la nullité d’un contrat rétroagit depuis sa conclusion. On dit en l’occurrence la nullité d’un contrat intervient ex tunc.
الاختصاص القيمي أو الكيفي تراعى فيه قيمة الشيء، كما هو الشأن في تعويض الضرر في المادة القضائية الناتج عن تدمير أو إتلاف ممتلكات، أو داخل إدارة الجمارك حيث تفرض الرسوم الجمركية حين الاستيراد على قيمة البضاعة وليس على الوزن أو الكمية كما هو الحال في إطار الرسوم النوعية·
Ratione valoris : en raison de la valeur, ou ad valorem : selon la valeur, c’est-à-dire en proportion de la valeur d’un bien comme en matière d’indemnisation judiciaire ou en matière douanière où les droits ad valorem, qui sont des taxes à l’importation, leur assiette est la valeur de la marchandise et non de son poids ou de sa quantité, comme c’est le cas des droits spécifiques.
الاختصاص الكمي يحدد الصوائر القضائية والفوائد القانونية والغرامات التهديدية والجبائية التي هي كما نص عليها الفصل 11 من ق. م. م. من اختصاص المحاكم الابتدائية بالنظر ابتدائيا، مع حفظ حق الاستيناف أمام غرف الاستينافات بالمحاكم الابتدائية، إلى غاية 20000 ألف درهم، وابتدائيا، مع حفظ حق الاستيناف أمام المحاكم الاستينافية، في جميع الطلبات التي تتجاوز 20000 ألف درهم (الفصل 19 من ق. م. م.)⸱
Ratione quantitatis : en raison de la quantité, c’est une expression d’ordre juridico-judiciaire utilisée pour déterminer le montant de l’intérêt litigieux et la nature du tribunal compétent.
Pour toutes ces notions et concepts latins nous nous sommes référés au Lexique juridique des Expressions latines, d’Henri Roland, in Litec, 4ème éd. 2006, 429 pages.
رابعا: المبادئ والقواعد القضائية الكبرى بما فيها القضاء الإداري تاريخيا وحاليا
إن العديد من المبادئ والقواعد القضائية الكبرى المطبقة حاليا في مختلف المحاكم والجهات القضائية ودرجات التقاضي تمتد جذورها تاريخيا إلى آلاف السنين، مثل مبادئ المساواة والاجتهاد والتواجهية والتجرد والمسؤولية، وقواعد تتعلق بشروط القضاء وباختصاصات القاضي·
جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن السيدة عائشة بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله (ص) كان “الذين قبلكم ···إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد···والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”· وقد كان الرسول (ص) منذ الثلث الأول من القرن السابع ميلادي أول قاضي في الإسلام يقضي بين المتنازعين، وولى غيره على القضاء في جهات مختلفة، مثل علي على اليمن وأبو موسى الأشعري على البصرة وشريح بن الحارث على الكوفة وسلمان بن ربيعة على المدائن (منطقة من العراق حاليا) وأبو الدرداء على الشام، وعلى دمشق بعد فتحها···
يقول الماوردي في الأحكام السلطانية، لما بعث الرسول (ص) معاذ ابن جبل إلى اليمن واليا، قلده الحكم والقضاء وقال له: “بم تحكم ؟” قال: “بكتاب الله” قال: “فإن لم تجد ؟” قال: “بسنة رسول الله”، قال: “فإن لم تجد ؟” قال: “أجتهد برأيي” فقال رسول الله: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسوله”· ومبدأ مواجهة الخصوم أو مبدأ الوجاهية أو التواجهية هو مبدأ تاريخي قديم من أصل روماني يرجع عهده إلى أكثر من 2300 سنة :
Audiatour et altera pars : que l’autre partie soit aussi entendue.
ومبدأ المواجهة بين الأطراف يوجد كذلك في الفقه الإسلامي منذ الثلث الأول من القرن السابع ميلادي· فقد وصى النبي (ص) عليا، لم يختبره، بل تنبيها فقط، حين بعثه قاضيا إلى اليمن، لعلمه بأحكام القضاء، فقال: “إذا حضر خصمان بين يديك فلا تقضي لأحدهما حتى تسمع كلام الآخر”· والتواجهية، مبدأ إجرائي، مسطري، يستلزم مصداقية الحكم وشفافيته، وتحقيق المحاكمة العادلة، والارتكاز على منهجية الاستدلال واستقراء الأحكام والانتقال منطقيا من الخاص إلى العام، أي من النازلة إلى تكييفها القانوني -عكس الاستنتاج أو الاستنباط الذي ينتقل من العام إلى الخاص أو من القاعدة إلى الواقعة-مما يضيف إلى الحكم القضائي دقة ووضوحا وموضوعية·
إن مبدأ التجرد في القضاء أو عدم الانحياز والمحاباة رافعة أساسية للعدالة والإنصاف وأخلاقيات القاضي والحفاظ على النظام العام، قال تعالى الآية 26 من سورة ص: “يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب”· وجاء في سورة النساء الآية 58: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”·وجاء في كتاب عمر بن الخطاب حول شروط القضاء الذي وجهه إلى أبي موسى الأشعري عندما ولاه على الكوفة: “··· البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الخصوم···ومراجعة الحق في الأحكام خير من التمادي في الباطل···” التأني والرصانة والحيطة والحذر في الحكم “···وضرب الأمثال وقياس الأمور بنظائرها···”· وكانت تتحدد للقاضي في الفقه الإسلامي اختصاصات نوعية (جميع القضايا أو بعضها)، واختصاصات محلية (جميع البلد أو جانب منه أو محلة منه)، واختصاصات وقتية (يوم السبت أو كل سبت أو سبت وأحد أو خميس أو يومين)، وأماكن للبت في الدعاوى المعروضة عليه (في داره أو داخل المسجد)· وقد لعبت مؤسسة المسجد في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية دورا رياديا على مستويات متعددة· بحيث كان المسجد في نفس الوقت مكانا للعبادة ومركزا اجتماعيا وثقافيا ومؤسسة تعليمة ومقرا للصراعات الفكرية والسياسية·
خامسا: ولاية القضاء في الفقه الإسلامي، والحكم بالوساطة ووظيفة الحسبة في الدول الإسلامية
كانت من بين صفات القاضي وخصائص القضاء في الفقه الإسلامي الصدق والنزاهة والأمانة والحفاظ على الأموال العمومية، فقد لقب النبي محمد، (ص) 570-632، وهو أول قاضي في الإسلام، بالأمين لأمانته وصدقه في أقواله وأفعاله ومعاملاته والفصل بالحق بين المتنازعين، ولشيوع هذه الخصال الحميدة فيه كانت توضع عنده الودائع· وقبل الرسول (ص) بأكثر من 1890 سنة، جاء على لسان النبي يوسف ابن يعقوب عليه السلام، في سورة يوسف، الآية 55: “اجعلني- مخاطبا فرعون أكيناتون- على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، أي أني خازن أمين وحفيظ لما استودعت عليه· والاعترافات الداخلية للفرد أو الإفصاح عن بعض الصفات الحسنة لا تعني الرغبة في طلب الكسب ولا طلب الولاية كما هو الشأن في هذه الحالة·
وبذل المال على طلب القضاء من المحظورات لأنها رشوة محرمة، فقد روى ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك أن الرسول (ص) لعن الراشي والمرتشي والرايش، أي باذل الرشوة وقابلها والوسيط بينهما· وروي كذلك عن النبي (ص) أنه قال: “هدايا الأمراء غلول”، أي خيانة وسرقة· وفي الصحيحين (صحيح مسلم، ص⸱ 1832 وصحيح البخاري، ص⸱ 7174) عن أبي حميد الساعدي قال استعمل الرسول (ص) عاملا من بني أسد، يدعى ابن اللتبية، على جمع أموال الزكاة من قبيلة بني سليم، وفي عودته، حين فرغ من عمله، قال مخاطبا النبي (ص) لما طلب محاسبته: «هذا لكم، وهذا أهدي لي ” مما أثار غضب النبي (ص) واستياؤه ولما قام عشيتها على المنبر قال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: “ما بال العامل نبعثه على الصدقة فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟”· وحذر الرسول (ص) من مثل هذه الأفعال واعتبرها رشوة وخيانة للأمانة واستغلالا للمنصب·
كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرون القضاء بأنفسهم ولا يجعلونه إلى من سواهم وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر بن الخطاب (583-644) فولى أبا الدرداء معه في المدينة (السعودية) وولى شريحا بالبصرة (العراق) وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة (العراق) وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة: “أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة···” مقدمة ابن خلدون، الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية، ص 244، والماوردي الأحكام السلطانية، ولاية القضاء، ص 59·
كان الخلفاء في العهد الإسلامي يلجؤون كذلك إلى أسلوب الوساطة· فحسب طبيعة القضايا وحدتها وأطراف الدعوى تعرض الشكوى أو النازلة على والي المظالم ( الخليفة نفسه أو من يفوض له ذلك الأمر من الخليفة ذاته) أو القاضي في جميع الدعاوى المدنية والجنائية والعقارية والشؤون الدينية الأسرية، أو المحتسب في كل تنازع يهم النظام العام والمعاملات التجارية في الأسواق وأخلاقيات المهنة، أو الوسيط في كل المسائل ذات الطابع التوافقي لمحاولة إرضاء الأطراف المعنية، وذلك تجنبا للتقاضي والإجراءات القضائية· كان كل من التزم بمهمة من هذه المهام وتحمل مسؤولية الفصل فيها يرتكز على هذه القواعد القضائية الأساسية مثل البينة على من ادعى، أي الأدلة والحجج، واليمين على من أنكر، وشهادة الشهود، والصلح والوساطة، والسماع من الأطراف المعنية، والكشف عن أقوالهم وأحوالهم، والحكم بالحق وموجب الشرع··· وكان يلجآ إلى الوساطة، “وساطة وجوه الجيران وأكابر العشائر” ويمعن الوسيط في تمحص القضية المعروضة عليه، وفي الكشف عن جيران الأطراف وجيران الضيعة إذا كانت المسألة موضوع النزاع عقارا، فإن انتهت إلى توافق وفض ما بين الأطراف من نزاع عن تراضي استقر الحكم على أساسا وإلا ردت إلى القضاء للبت فيها· وقد ترفع القضية كذلك إلى والي المظالم إذا كانت الحلول المقترحة غير مرضية لجهة معينة أو كلاهما، أو الأطراف غير متساوية أو في حالة “غوامض الأحكام ومشكلات الخصام”·أبو الحسن الماوردي، كتاب الأحكام السلطانية (1038-1058)، ولاية المظالم، ص 64-82·
ووظيفة الحسبة في الإسلام وفي الدول الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي هي عموما حماية الصالح العام كما كان يقوم بها المحتسب حيث كانت تتجلى مهامه في مراقبة المعاملات التجارية والصنائع والحرف في الأسواق، ومراقبة الغش والبخس والتطفيف في المكاييل والموازين، ومراقبة معاملات أرباب المواشي لبهائمهم، ومراقبة الأبنية والعمران والطرق والتعليم والأخلاق العامة والقيم الاجتماعية والسهر على تحقيق العدالة والمساواة بين الشرائح الاجتماعية·
وفي قوله تعالى: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أولئك هم المفلحون” سورة آل عمران الآية 104· وجاء على لسان الماوردي في الأحكام السلطانية، الباب العشرون في أحكام الحسبة، وهي: “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”· وتهتم بالعبادات والمعاملات والمحظورات، وتميز الصحيح من الفاسد والحق من الباطل، وتراضي المتعاقدين في البيع والشراء، ومحاربة البيوع الفاسدة والغش والتدليس وتدليس الأثمان· وروي عن النبي (ص) قال: “ليس منا من غش”· كانت مهام المحتسب جد متنوعة ولها آثار إيجابية بالغة في الحياة اليومية للساكنة، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية، باب الحسبة، ص 222 فقد مر يوما، “إبراهيم بن بطحاء والي الحسبة بجانبي بغداد بدار أبي عمر بن حماد وهو يومئذ قاضي القضاة فرأى جلوسا على بابه ينتظرون جلوسه للنظر بينهم وقد تعالى النهار وهجرت الشمس فوقف واستدعى حاجبه وقال تقول لقاضي القضاة الخصوم جلوس على الباب وقد بلغتهم الشمس وتأذوا بالانتظار فإما جلست لهم أو عرفتهم عذرك فينصرفوا ويعودوا···”·
والحسبة وظيفة دينية-اجتماعية في باب الدعوة إلى الخير والزجر عن الشر والمعصية يتولاها المحتسب بصفته رقيبا وسلطة إدارية ورقابية في دائرة اختصاصاته الترابية (مدينة أو إقليما)، وتتلخص في حمل الناس على المصالح العامة، مفادها تفصيلا كما عرفها الفقهاء آنذاك : المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (أي المارة)، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبداع في ضربهم للصبيان المتعلمين، وحمل المماطلين عن الإنصاف في التجارة والصناعة والفلاحة· وللمحتسب الرقابة والسلطة للنظر والحكم في كل ما يصل إليه من هذه الأمور· وكانت وظيفة الحسبة قائمة في الكثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر، والمغرب والأمويين بالأندلس، داخلة في عموم ولاية القضاء، وأصبحت فيما بعد ولاية مستقلة· ابن خلدون، المقدمة، ص 249، الماوردي، الأحكام السلطانية، ص· 208-224، ابن تيمية (1263-1328)، الحسبة في الإسلام ووظيفة أو مسؤولية الدولة الإسلامية، مطبوعات الشعب، ثقافة وعلوم إنسانية لكل الشعب، تحقيق صلاح عزام، 126 ص، والكتاب هو في الأصل مجموعة من الفتاوى في الحسبة والمحتسب والاحتساب والغش والتدليس في المبيعات والعقوبات الشرعية كتبها المؤلف في فترات مختلفة من حياته·
سادسا: ولاية المظالم والمادة الإدارية والقضاء الإداري
ولاية المظالم، مؤسسة عمومية، مصلحة عامة ومرفق عمومي، كان يتولاه الخلفاء والأمراء والوزراء المفوضون والقضاة ويكمن موضوعه في ردع الظالمين وإنصاف المظلومين⸱ وكان النظر في المظالم في أوله مفردا في عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين، ثم أصبح فيما بعد مجلسا يرأسه أمير المؤمنين، في عهد الدولة الأموية، مثل عبد الملك بن مروان (646-705)، وعمر بن عبد العزيز (681-720)، وفي ظل الدولة العباسية، مثل المهدي (775-785) والهادي (785-786) والرشيد (786-809) والمأمون (813-833) والمهتدي (869-870). أبو الحسن الماوردي (ق⸱ 10-11)، الأحكام السلطانية، ولاية المظالم، الباب السابع⸱
كانت الغاية والهدف من ولاية المظالم رد المظالم وإنصاف المظلوم من جور الحكام والعمال وتعدي الولاة على الرعية، وسطوة كتاب الدواوين على أموال المسلمين لأنهم أمناء على ثبوتها، وتظلم المسترزقة (أجراء وموظفون) من نقص أرزاقهم أو تأخرها وإجحاف النظر بهم⸱ ورد الغصوب من الغاصب إلى المغصوب، وهي معاملات غير شرعية من أصحاب النفوذ والسلطة اتجاه كل من اغتصبت أو تغتصب أمواله : عقارات، ضيعات، أراضي، أجور⸱⸱⸱أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية، ولاية المظالم، الباب السابع⸱ كان الخلفاء في بداية الأمر يولون القضاة للنظر في المظالم بحيث كانت هذه الوظيفة “ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء” وكانت تحتاج إلى سلطة قوية لردع الظالم وزجر المتعدي من الطرفين⸱ وأصبح والي المظالم فيما بعد، لما استقلت هذه الوظيفة، يفصل في كل القضايا التي عجز القضاة أو غيرهم عن الفصل فيها، مرتكزا في مهامه على البينات والتقارير والأمارات والقرائن واستجواب الشهود واتخاذ الوقت الكافي لتحليل وفهم النازلة واستجلاء الحق وحمل الطرفين على الصلح⸱ أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية، ولاية المظالم، ص⸱ 81-82، ابن خلدون، المقدمة، ص⸱ 245⸱
وكان الخلفاء الأولون، إلى حكم المهتدي (869-870) الدولة العباسية، يمارسون ولاية المظالم بأنفسهم، وكانوا يفوضونها كذلك للقضاة كما فعل عمر بن الخطاب (634-644) مع إدريس الخولاني والمأمون (813-833) الدولة العباسية مع يحيى بن أكتم وعبد الرحمان الناصر (929-961) الدولة الأموية بالأندلس لمنذر بن سعيد⸱ مقدمة ابن خلدون، ص⸱ 245⸱ وكان والي المظالم يختص كذلك بالنظر في كل ما عجز القضاة عن تنفيذه من أحكام بسبب قوة ونفوذ المحكوم عليه فيكون ناظر المظالم في هذه الحالة”أقوى يدا وأنفذ أمرا” فيحكم وينفذ الحكم وينتزع ما في حوزة المحكوم عليه أو يلزمه الخروج مما في ذمته من غير موجب شرع⸱ الماوردي، الأحكام السلطانية، ولاية المظالم، ص⸱ 104⸱ وكانت كذلك ولاية المظالم تختص بالنظر في كل ما عجز عن الحكم فيه وتنفيذه الناظرون من الحسبة في خروقات المصالح العامة: كارتكاب منكر صعب دفعه، أو تهجما في طريق تعذر منعه، أو حيفا في حق استعصي رده، فينتزع الناظر قهرا حق المظلوم من الظالم⸱ الماوردي، الأحكام السلطانية، ولاية المظالم، ص⸱ 104⸱
كانت تقع كذلك في هذه العهود الإسلامية، وحسب تعاقب الحقب التاريخية والحكام القائمين عليها وحسب الأوضاع الاجتماعية، حالات كثيرة من الاعتداء والتسلط والتعسف واغتصاب ممتلكات وأموال المسلمين من طرف الأعيان وأصحاب النفوذ والأمراء والعمال والمشرفين على الأوقاف⸱ تظلم رجل ورد من اليمن لعمر بن عبد العزيز (681-720) ثامن خلفاء بني أمية قائلا: “غصبني الوليد بن عبد الملك ضيعتي”، فقال الخليفة: ” يا مراجع ائتيني بدفتر الصوافي (وهي سجلات تتعلق بالأملاك أو الأراضي التي انتزعت من ملاكها أثناء الحروب أو مات أهلها ولم يبق لهم ورثة، تعرف هذه الأملاك بالصوافي، وقد تشمل الصوافي أيضا الأراضي التي كانت تستخلص لفائدة السلطان أو لخدمة خاصة)، ولما أتاه المراجع بالدفتر وجده يتضمن: “أصفى عبد الله الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان)، فقال الخليفة: “أخرجها من الدفتر وليكتب برد ضيعته إليه ويطلق له ضعف نفقته”⸱
كان المأمون، سابع خلفاء بني العباس (813-833) يجلس للمظالم في يوم الأحد، تظلمت إليه امرأة في ثياب رثة ابتز منها ضياعا فقال لها الخليفة:”من خصمك ؟” فقالت: “القائم على رأسك العباس بن أمير المؤمنين” فقال المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم: “أجلسها معه وانظر بينها” فأجلسها القاضي معه ونظر بينهما بحضرة المأمون وجعل كلامها يعلو، فجزرها الحاجب، فقال له الخليفة: “دعها فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه”⸱ وأمر برد ضياعها عليها ونفذ الحكم ساعتها بحضور الخليفة وبمشهده⸱ الماوردي، الأحكام السلطانية، الباب السابع في ولاية المظالم، ص⸱ 64 و 82⸱
سابعا: ربط الماضي بالحاضر في المادة الإدارية ورد الاعتبار للقضاء الإداري وتاريخ القضاء الإداري
ولاية المظالم، أو قضاء المظالم، حل من بين الحلول الاجتماعية التي انبثقت في الواقع قبل مجيء الإسلام وأرست قواعدها فيما بعد الشريعة الإسلامية⸱ جاءت كجواب تطبيقي عن الحالات التي قد يعجز القاضي العادي عن البت فيها بين الظالم، صاحب الجاه والنفوذ، وبين المظلوم، الضعيف الذي لا ناصر له⸱ قام بها النبي (ص) وتولاها عمر بن الخطاب وأصبحت مؤسسة شرعية قضائية قائمة الذات⸱
تحالف العرب قبل الإسلام على رد المظالم بمكة على إثر تاجر من بني زبيد، بلد باليمن، اغتصبت منه سلعته بمكة وكان الزبير بن عبد المطلب الهاشمي القرشي أول من ساهم في تعاقد المتحالفين على أن لا يعتدي أحد إلا وأوقفوه وأخذوا للمظلوم حقه، وانتزعت السلعة من الظالم وردت للمظلوم، فقالت قريش هذا فضول فسمي “حلف الفضول”، نسبة إلى أسماء المتحالفين ثلاثة منهم كان إسمهم ” الفضل”⸱ مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبعة مؤسسة الرسالة، ماي 2006، 26613 ص⸱ محمد البخاري، الأدب المفرد، 896 م، تحقيق الشيخ الألباني⸱
ورسخ قضاء المظالم فيما بعد مع مرور الزمن وتطور تاريخ الحضارة الإسلامية وأصبح مجلسا منظما قائم الذات ينظر في المظالم كلما كان الطرفان في رتب متفاوتة: الطرف الضعيف المغلوب على أمره، والطرف القوي ذو الشأن والنفوذ⸱ أما إذا تعلق الأمر بخصمين من رتبة واحدة كان الاختصاص للقاضي العادي للفصل بينهما⸱ وأنا أرى أن هذا النوع من الأنظمة القضائية وطرق الفصل في الخصومات والدعاوى المعروضة على القضاة الذي يرجع عهده إلى القرن السادس ميلادي (حلف الفضول) مرورا بعصر النبي (ص) والخلفاء الراشدون، ثم الأمويون والعباسيون والمغرب ومصر والأندلس⸱⸱⸱يذكرني بالنظام القضائي الحالي بالمغرب والتمييز بين القضاء العادي والقضاء الإداري⸱ فإذا تخطينا قضية بلانكو (1873) وقضية طيريي (1903) وقضية طيرون (1910) وقضية موبور (1942)⸱⸱⸱ وربطنا حاضرنا القضائي: قضية مدافع قصبة الوداية (1928) ومزرعة عبد العزيز (1970) وقضية بالواد (2001)⸱⸱⸱ بماضينا القضائي: قضية حلف الفضول (القرن السادس م⸱) وقضية ابن اللتبية (ق⸱ السابع م⸱) وقضية سوط ابن والي مصر لمسابقه (ق⸱ السابع م⸱) وقضية اغتصاب ممتلكات لضعيف من طرف والي البصرة (ق⸱ السابع م⸱) وقضية اغتصاب ممتلكات لصاحبها من طرف قائد جيش والي المظالم أبو جعفر المنصور بأرمينيا (ق⸱ الثامن م⸱)⸱⸱⸱ نكون قد خطونا خطوة كبيرة نحو ترميم واقع القضاء المغربي بصفة عامة والقضاء الإداري بصفة خاصة⸱ تعالج هذه القضايا اغتصاب أموال وممتلكات الغير والرشوة والمحاباة وإساءة استعمال النفوذ والعجرفة واحتقار الضعيف⸱ يقول ابن تيمية، رسالة في المظالم المشتركة، ص⸱ 342 “والضعفاء الذين لا ناصر لهم تؤخذ منهم (أموالهم) ⸱⸱⸱ والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء⸱⸱⸱ مع أن أملاكهم أكثر (وهذه علامة) الفساد والشر”⸱ وحصلت كذلك قضايا أخرى عديدة في قضاء المظالم وردع السلطات الجائرة على اغتصاب أموال الضعفاء منذ أن نشأت هذه المؤسسة وتطورت في تاريخ المغرب ومصر والأندلس مع تعاقب السلاطين والأمراء على الحكم منذ القرن الثامن إلى الآن بالنسبة للمغرب، ومنذ بداية القرن العاشر (عصر الولاة) إلى القرن الرابع عشر (عصر المماليك) بالنسبة لمصر، ومنذ القرن الثامن إلى نهاية القرن الخامس عشر بالنسبة للعصر الأندلسي⸱ الجيلالي شبيه، دكتور ومؤهل للبحث والتدريس ومنهجية العلوم القانونية والمالية والإدارية بجامعة باريس، ودكتور الدولة بجامعة القاضي عياض في العلوم المالية والجبائية⸱
المراجع:
صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم 6979 و 7197، و الأدب المفرد، 869 م، تحقيق الشيخ الألباني
صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم 1832
مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبعة مؤسسة الرسالة، ماي 2006، الصفحات 26613
أنس بن مالك، 612-709، صحابي من صحابة الرسول (ص) وراوي من رواة الحديث
تقي الدين أحمد ابن تيمية، مجموعة فتاوى ابن تيمية، 1263-1328، الفقه، باب الغصب، رسالة في المظالم المشتركة، الصفحات 337-342، جزء 30⸱
إبن كثير، 1301-1373، البداية والنهاية، أو تاريخ إبن كثير، الجزء العاشر، الصفحات 192-411، 1998، 692 ص⸱ أنظر كذلك دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1994⸱
أبو الحسن الماوردي، 974-1058، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، (أو قواعد القانون العام والقانون الإداري)⸱
عبد الرحمان إبن خلدون، 1332-1406، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، في سبعة مجلدات، واعتبرت المقدمة لاحقا مؤلفا مستقلا، يرصد فيه المؤلف “مفهوم العمران البشري وتطور المجتمعات” في ثلاثة أقسام: المجتمعات، التاريخ، السلطات، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، 1408 صفحة⸱
أحمد المقريزي، 1374-1442، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، رصد الحوادث من 1181 إلى 1440، المخطوط الأصلي للكتاب موجود حاليا بالخزانة الوطنية بباريس، ونسخة منه توجد بالخزانة الملكية بالقاهرة⸱ إبن تغري بردي، 1410-1470، كتاب الحوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، 1172-1303، المكتبة الشاملة، 12 فصلا، عدد الصفحات 613، تاريخ النشر 1990، تاريخ الإضافة ماي 2015، الناشر عالم الكتب، بيروت، تحقيق محمد كمال عز الدين⸱
*الجيلالي شبيه، دكتور ومؤهل للبحث والتدريس ومنهجية العلوم القانونية والمالية والإدارية بجامعة باريس، ودكتور الدولة بجامعة القاضي عياض في العلوم المالية والجبائية